فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها، وهذا الكلام مفيد المبالغة التامة من هذا الوجه، فكذا هاهنا. قال: فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته، يعني: أنه لا يمكن أن يصف البليغ بترك التهديد بأعظم من أنه ترك التعظيم، فكان ذلك تنبيها على التهديد والوعيد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر: رسالاته على الجمع. وقرأ باقي السبعة: على التوحيد.
* (والله يعصمك من الناس) * أي لا تبال في التبليغ، فإن الله يعصمك فليس لهم تسليط على قتلك لا بمؤامرة، ولا باغتيال، ولا باسيتلاء عليك بأخذ وأسر. قال محمد بن كعب: نزلت بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم) ليقتله انتهى، وهو غورث بن الحارث، وذلك في غزوة ذات الرقاع.
وروى المفسرون أن أبا طالب كان يرسل رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل قوله: والله يعصمك من الناس، فقال: إن الله قد عصمني من الجن والإنس، فلا أحتاج إلى من يحرسني. وقال ابن جريج: كان يهاب قريشا فلما نزلت استلقى وقال: * (من شاء) *. وروى أبو أمامة حديث ركانة من: ولد هاشم مشركا أفتك الناس وأشدهم، تصارع هو والرسول، فصرعه الرسول صلى الله عليه وسلم) ثلاثا ودعاه إلى الإسلام، فسأله آية، فدعا الشجرة فأقبلت إليه. وقد انشقت نصفين، ثم سأله ردها إلى موضعها فالتأمت وعادت، فالتمسه أبو بكر وعمر فدلا عليه أنه خرج إلى واد أضم حيث ركانة، فسارا نحوه واجتمعا به، وذكرا أنهما خافا الفتك من ركانة، فأخبرهما خبره معه وضحك، وقرأ والله يعصمك من الناس. وهذا ما قبله يدل على أن ذلك نزل بمكة أو في ذات الرقاع، والصحيح أنها نزلت بالمدينة والرسول بها مقيم شهرا، وحرسه سعد وحذيفة، فنام غط، فنزلت، فأخرج إليهما رأسه من قبة أدم وقال: * (انصرفوا * أيها الناس * فقد) * وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم: وأما شج جبينه وكسر رباعيته يوم أحد فقيل: الآية نزلت بعد أحد، فأما إن كانت قبله فلم تتضمن العصمة هذا الابتلاء ونحوه من أذى الكفار بالقول، بل تضمنت العصمة من القتل والأسر، وأما مثل هذه فيها الابتلاء الذي فيه رفع الدرجات واحتمال كل الأذى دون النفس في ذات الله، وابتلاء الأنبياء أشد، وما أعظم تكليفهم. وأتى بلفظ يعصمك لأن المضارع يدل على الديمومة والاستمرار، والناس عام يراد به الكفار يدل عليه ما بعده. وتضمنت هذه الجملة الإخبار بمغيب ووجد على ما أخبر به، فلم يصل إليه أحد بقتل ولا أسر مع قصدا لا عداء له مغالبة واغتيالا. وفيه دليل على صحة نبوته، إذ لا يمكن أن يكون إخباره بذلك إلا من عند الله تعالى، وكذا جميع ما أخبر به.
* (تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين) * أي إنما عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهتدي أبدا، فيكون خاصا. قال ابن عطية: أما على العموم على أن لا هداية في الكفر، ولا يهدي الله الكافر في سبيل كفره. وقال الزمخشري: ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله، بل من الهلاك انتهى. وهو قول بعضهم لا يعينهم على بلوغ غرضهم منك. وقيل: المعنى لا يهديهم إلى الجنة. والظاهر من الهداية إذا أطلقت ما فسرناها به أولا.
* (قل ياأهل * أهل الكتاب * لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم) * قال رافع بن سلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم، وإنك تؤمن بالتوراة ونبوة موسى، وأن ذلك حق؟ قال: * (بلى ولاكنكم) * فقالوا: إنا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق، ولا نصدقك، ولا نتبعك فنزلت. وتقدم الكلام على إقامة التوراة والإنجيل وما أنزل، فأغنى عن إعادته. ونفى أن يكونوا على شيء جعل ما هم عليه عدما صرفا