تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٣٩
التوراة والنصارى في الإنجيل. وقيل: أمر بتبليغ أمر زينب بنت جحش ونكاحها. وقيل: بتبليغ الجهاد والحث عليه، وأن لا يتركه لأجل أحد. وقيل: أمر بتبليغ معائب آلهتهم، إذ كان قد سكت عند نزول قوله: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) * الآية عن عيبها وكل واحد من هذا التبليغ الخاص. قيل: أنها نزلت بسببه، والذي يظهر أنه تعالى أمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بتبليغ ما أنزل إليه في أمرهم وغيره من غير مبالاة بأحد، لأن الكلام قبل هذه الآية وبعدها هو معهم، فيبعد أن تكون هذه الآية أجنبية عما قبلها وعما بعدها.
* (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * أي وإن لم تفعل بتبليغ ما أنزل إليك، وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط، إذ صار المعنى: وإن لم تفعل لم تفعل، والجواب لا بد أن يغاير الشرط حتى يترتب عليه. فقال الزمخشري: فيه وجهان: أحدهما: أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالة وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا، كان أمرا شنيعا. وقيل: إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كلمة واحدة فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها، كما عظم قتل النفس بقوله: * (فكأنما قتل الناس جميعا) * والثاني: أن يراد فإن لم تفعل ذلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب، فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده قوله عليه السلام: * (فأوحى * الله إليك * إن لم * تبلغ) *. وقال ابن عطية: أي إن تركت شيئا فكأنك قد تركت الكل، وصار ما بلغت غير معتد به. فمعنى: وإن لم تفعل، وإن لم تستوف. ونحو هذا قول الشاعر:
* سئلت فلم تبخل ولم تعط نائلا * فسيان لا ذم عليك ولا حمد * أي إن لم تعط ما يعد نائلا وألا تتكاذب البيت. وقال أبو عبد الله الرازي: أجاب الجمهور بأن لم تبلغ واحدا منها كنت كمن لم يبلغ شيئا. وهذا ضعيف، لأن من أتى بالبعض وترك البعض. فإن قيل: إنه ترك الكل كان كاذبا، ولو قيل: إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل، فهذا هو المحلل الممتنع، فسقط هذا الجواب انتهى. وما ضعف به جواب الجمهور لا يضعف به، لأنه قال: فإن قيل أنه ترك الكل كان كاذبا، ولم يقولوا ذلك إنما قالوا: إن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداها جميعا. كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لا يؤمن بكلها لأداء كل منها بما يدلي به غيرها، وكونها لذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن، فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتد به، وأما ما ذكر من أن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل محال ممتنع، فلا استحالة فيه. ولله تعالى أن يرتب على الذنب اليسير العذاب العظيم، وله تعالى أن يعفو عن الذنب العظيم، ويؤاخذ بالذنب الحقير: * (عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون) * وقد ظهر ذلك في ترتيب العقوبات في الأحكام الشرعية، رتب على من أخذ شيئا بالاختفاء والتستر، قطع اليد مع رد ما أخذه أو قيمته، ورتب على من أخذ شيئا بالقهر والغلبة والغصب رد ذلك الشيء أو قيمته إن فقد دون قطع اليد. وقال أبو عبد الله الرازي: والأصح عندي أن يقال: إن هذا خرج على قانون قوله: أنا أبو النجم وشعرى شعري، ومعناه: أن شعري بلغ في الكمال والفصاحة والمتانة بحيث متى قيل فيه انه شعري
(٥٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 534 535 536 537 538 539 540 541 542 543 544 ... » »»