تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٤٢
لوجهين: أحدهما: قوله: لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين، وليس كما ذكر، لأن الرسول في هذا التركيب لا يراد به الواحد، بل المراد به الجنس. وأي نجم طلع، وإذا كان المراد به الجنس انقسم إلى الفريقين: فريق كذب، وفريق قتل. والوجه الثاني قوله: ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخي أخاك أكرمت، يعني أنه لا يجوز تقديم منصوب فعل للجواب عليه. وليس كما ذكر، بل مذهب البصريين والكسائي إن ذاك جائز حسن، ولم يمنعه إلا الفراء وحده، وهذا كله على تقدير تسليم إن كلما شرط، وإلا فلا يلزم أن يعتذر بهذا، بل يجوز تقديم منصوب الفعل العامل في كلما عليه. فتقول في كلما جئتني أخاك أكرمت، وعموم نصوص النحويين على ذلك، لأنهم حين حصر، وأما يجب تقديم المفعول به على العامل وما يجب تأخيره عنه قالوا: وما سوى ذلك يجوز فيه التقديم على العامل والتأخير عنه، ولم يستثنوا هذه الصورة، ولا ذكروا فيها خلافا. فعلى هذا الذي قررناه يكون العامل في كلما قوله: كذبوا، وما عطف عليه ولا يكون محذوفا. وقال الحوفي وابن عطية: كلما ظرف، والعامل فيه كذبوا. وقال أبو البقاء: كذبوا جواب كلما انتهى. وجاء بلفظ يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعا للقتل، واستحضارا لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها قاله الزمخشري. ويحسن مجيئه أيضا كونه رأس آية، والمعنى: أنهم يكذبون فريقا فقط، وقتلوا فريقا ولا يقتلونه إلا مع التكذيب، فاكتفى بذكر القتل عن ذكر التكذيب أي: اقتصر ناس على تكذيب فريق، وزاد ناس على التكذيب القتل.
* (وحسبوا * أن لا * تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم) * قال ابن الأنباري: نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل البعثة، فلما بعث الرسول كذبوه بغيا وحسدا، فعموا وصموا لمجانبة الحق، ثم تاب الله عليهم أي: عرضهم للتوبة بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم)، وإن لم يتوبوا ثم عموا وصموا كثير منهم لأنهم لم يجمعوا كلهم على خلافه انتهى. والضمير في: وحسبوا، عائد على بني إسرائيل، وحسبانهم سببه اغترارهم بإمهال الله حين كذبوا الرسل وقتلوا، أو وقوع كونهم أبناء الله وأحباءه في أنفسهم، وأنهم لا تمسهم النار إلا مقدار الزمان الذي عبدوا فيه العجل، وإمداد الله لهم بطول الأعمار وسعة الأرزاق، أو وقوع كون الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى في أنفسهم، واعتقادهم امتناع النسخ على شريعة موسى، فكل من جاءهم من رسول كذبوه وقتلوه خمسة أقوال. والفتنة هنا: الابتلاء والاختبار. فقيل: في الدنيا بالقحط والوباء وهو الطاعون، أو القتل، أو العداوة، أو ضيق الحال، أو القمل، والضفادع، والدم، أو التيه، وقتال الجبارين، أو مجموع ما ذكر أقوال ثمانية. وقيل: في الآخرة بالافتضاح على رؤوس الأشهاد، أو هو يوم القيامة وشدته، أو العذاب بالنار والخلود ثلاثة أقوال. وقيل: الفتنة ما نالهم في الدنيا وفي الآخرة، وسدت أن وصلتها مسد مفعولي حسب على مذهب سيبويه. وقرأ الحرميان وعاصم وابن عامر: بنصب نون تكون بأن الناصبة للمضارع، وهو على الأصل إذ حسب من الأفعال التي في أصل الوضع لغير المتيقن. وقرأ النحويان وحمزة برفع النون، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة المنفية في موضع الخبر. نزل الحسبان في صدورهم منزلة العلم، وقد استعملت حسب في المتيقن قليلا قال الشاعر:
* حسبت التقى والجود خير تجارة * رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا * وتكون هنا تامة.
* (ثم عموا وصموا كثير منهم) * قالت جماعة: توبتهم هذه ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول وعماهم وصممهم. قيل: ولوجهم في شهواتهم فلم يبصروا الحق، ولم يسمعوا داعي الله. وقالت جماعة: توبتهم يبعث عيسى عليه السلام. وقالت جماعة: بعث محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: الأول: في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ولتوفيق كثير منهم للإيمان. والثاني: في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم) آمن جماعة به، وأقام
(٥٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 537 538 539 540 541 542 543 544 545 546 547 ... » »»