استحفظوا من كتاب الله) * الباء في بما للسبب، وتتعلق بقوله: يحكم. واستفعل هنا للطلب، والمعنى: بسبب ما استحفظوا. والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي: بسبب ما طلب الله منهم حفظهم لكتاب الله وهو التوراة، وكلفهم حفظها، وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها، وقد أخذ الله على العلماء حفظ الكتاب من وجهين: أحدهما: حفظه في صدورهم ودرسه بألسنتهم. والثاني: حفظه بالعمل بأحكامه واتباع شرائعه. وهؤلاء ضيعوا ما استحفظوا حتى تبدلت التوراة. وفي بناء الفعل للمفعول وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفل بحفظ التوراة، بل طلب منهم حفظها وكلفهم بذلك، فغيروا وبدلوا وخالفوا أحكام الله بخلاف كتابنا، فإن الله تعالى قد تكفل بحفظه، فلا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير. قال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وقيل: الضمير في استحفظوا عائد على الربانيين والأحبار فقط. والذين استحفظهم التوراة هم الأنبياء.
* (وكانوا عليه شهداء) * الظاهر أن الضمير عائد على كتاب الله أي: كانوا عليه رقباء لئلا يبدل. والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى، وكان بينهما ألف نبي للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائهم عليهم ما اشتهوه من الجلد. وقيل: الهاء تعود على الحكم أي: وكانوا شهداء على الحكم. وقيل: عائد على الرسول أي: وكانوا شهداء على أنه نبي مرسل.
* (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بئاياتى ثمنا قليلا) * هذا نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم، وإذهابهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل بخشية سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد من الغرماء والأصدقاء. ولا تستعطوا بآيات الله ثمنا قليلا وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرياسة فهلكوا. وهذا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن معناه: لا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم) والعمل بالرجم، واخشون في كتمان ذلك. ولما كان الإقدام على تغيير أحكام الله سببه شيئان: الخوف، والرغبة، وكان الخوف أقوى تأثيرا من الرغبة، قدم النهي عن الخوف على النهي عن الرغبة والطمع. والظاهر أن هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية، والقول لعلماء بني إسرائيل. وقال مقاتل: الخطاب ليهود المدينة قيل لهم: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم، واخشوني في كتمانه انتهى. وهذا وإن كان خطابا لعلماء بني إسرائيل، فإنه يتناول علماء هذه الأمة. وقال ابن جريج: هو خطاب لهذه الأمة أي لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس، فلم يقولوا الحق.
* (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * ظاهر هذا العموم، فيشمل هذه الأمة وغيرهم ممن كان قبلهم، وإن كان الظاهر أنه في سياق خطاب اليهود، وإلى أنها عامة في اليهود غيرهم. ذهب ابن مسعود، وإبراهيم، وعطاء، وجماعة ولكن كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق يعني: إن كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر، وكذلك ظلمه وفسقه لا يخرجه ذلك عن الملة قاله: ابن عباس وطاووس. وقال أبو مجلز: هي مخصوصة باليهود والنصارى وأهل الشرك وفيهم نزلت. وبه قال: أبو صالح قال: ليس في الإسلام منها شيء. وروي في هذا حديث عن البراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم): * (أنها * الثلاثة * فى * الكافرين) * قال عكرمة، والضحاك: هي في أهل الكتاب، وقاله: عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وذكر أبو عبيدة هذه الأقوال فقال: إن بشرا من الناس يتأولون الآيات على ما لم تنزل