تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٤٨
وقيل: المراد ملك الموت وأعوانه وهم: ستة، ثلاثة لأرواح المؤمنين، وثلاثة لأرواح الكافرين. ويشهد لهذا * (توفته رسلنا وهم لا يفرطون) * وظلمهم أنفسهم بترك الهجرة، وقعودهم مع قومهم حين رجعوا للقتال، أو برجوعهم إلى الكفر، أو بشكهم، أو بإعانة المشركين، أقوال أربعة: وتوفاهم: ماض لقراءة من قرأ توفتهم، ولم يلحق تاء التأنيث للفصل، ولكون تأنيث الملائكة مجازا أو مضارع، وأصله تتوفاهم.
وقرأ إبراهيم: توفاهم بضم التاء مضارع وفيت، والمعنى: أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها. والضمير في قالوا للملائكة، والجملة خبر إن، والرابط ضمير محذوف دل عليه المعنى، التقدير: قالوا: قالوا لهم فيم كنتم؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع. والمعنى: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ وقيل: إن أحوال الدنيا، وجوابهم للملائكة اعتذار عن تخلفهم عن الهجرة، وإقامتهم بدار الكفر، وهو اعتذار غير صحيح.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف صح وقوع قوله: كنا مستضعفين في الأرض، جوابا عن قولهم: فيم كنتم؟ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، ولم يكن في شيء؟ (قلت): معنى فيم كنتم، التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على الهجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به، واعتلالا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء انتهى كلامه. والذي يظهر أن قولهم: كنا مستضعفين في الأرض جواب لقوله: فيم كنتم على المعنى، لا على اللفظ. لأن معنى: فيم كنتم في أي حال مانعة من الهجرة كنتم، قالوا: كنا مستضعفين أي في حالة استضعاف في الأرض بحيث لا نقدر على الهجرة، وهو جواب كذب، والأرض هنا أرض مكة. * (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * هذا تبكيت من الملائكة لهم، ورد لما اعتذروا به. أي لستم مستضعفين، بل كانت لكم القدرة على الخروج إلى بعض الأقطار فتهاجروا حتى تلحقوا بالمهاجرين، كما فعل الذين هاجروا إلى الحبشة، ثم لحقوا بعد بالمؤمنين بالمدينة. ومعنى فتهاجروا فيها أي: في قطر من أقطارها، بحيث تأمنون على دينكم. وقيل: أرض الله أي المدينة. واسعة آمنة لكم من العدو فتخرجوا إليها. وهل هؤلاء الذين توفتهم الملائكة مسلمون خرجوا مع المشركين في قتال فقتلوا؟ أو منافقون، أو مشركون؟ ثلاثة أقوال. الثالث قاله الحسن. قال ابن عطية: قول الملائكة لهم بعد توفي أرواحهم يدل على أنهم مسلمون، ولو كانوا كفارا لم يقل لهم شيء من ذلك، وإنما لم يذكروا في الصحابة لشدة ما واقعوه، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان، واحتمال ردته. انتهى ملخصا. وقال السدي: يوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر كافرا حتى يهاجر، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا انتهى. قال ابن عطية: والذي تقتضيه الأصول أن من ارتد من أولئك كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود، ومن كان مؤمنا فمات بمكة ولم يهاجر، أو أخرج كرها فقتل، عاص مأواه جهنم دون خلود. ولا حجة للمعتزلة في هذه الآية على التكفير بالمعاصي. وفي الآية دليل على أن من لا يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يحب، وجبت عليه الهجرة. وروي في الحديث (من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم)).
* (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) * الفاء للعطف، عطفت جملة على جملة. وقيل: فأولئك خبر إن، ودخلت الفاء في خبر إن تشبيها لاسمها باسم الشرط، وقالوا: فيم كنتم حال من الملائكة، أو صفة لظالمي أنفسهم أي: ظالمين أنفسهم قائلا لهم الملائكة: فيم كنتم؟ وقيل: خبر إن محذوف تقديره: هلكوا، ثم فسر الهلاك بقوله: قالوا فيم كنتم.
* (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) * من الرجال جماعة، كعياش بن أبي زمعة، وسلمة بن هشام، والوليد بن الوليد. ومن النساء جماعة: كأم
(٣٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 343 344 345 346 347 348 349 350 351 352 353 ... » »»