تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٢٦
وقرأ حمزة والكسائي: أصدق بإشمام الصاد زايا، وكذا فيما كان مثله من صاد ساكنة بعدها دال، نحو: يصدقون وتصدية. وأما إبدالها زايا محضة في ذلك فهي لغة كلب. وأنشدوا:
* يزيد الله في خيراته * حامي الذمار عنده مضد مصدوقاته * يريد: عند مصدوقاته.
* (فما لكم فى المنافقين فئتين) * ذكروا في سبب نزولها أقوالا طولوا بها وملخصها: أنهم قوم أسلموا فاستوبؤا المدينة فخرجوا، فقيل هم: أما لكم في الرسول أسوة؟ أو ناس رجعوا من أحد لما خرج الرسول، وهذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت. أو ناس بمكة تكلموا بالإسلام وهم يعينون الكفار، فخرجوا من مكة. قال الحسن، ومجاهد: خرجوا الحاجة لهم، فقال قوم من المسلمين، اخرجوا إليهم فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم. وقال قوم: كيف نقتلهم وقد تكلموا بالإسلام؟ رواه ابن عطية عن ابن عباس. أو قوم قدموا المدينة وأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك، أو قوم أعلنوا الإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة قاله: الضحاك. أو العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يسارا، أو المنافقون الذين تكلموا في حديث الإفك.
وما كان من هذه الأقوال يتضمن أنهم كانوا بالمدينة، يرده قوله: * (حتى يهاجروا فى سبيل الله) * إلا إن حملت المهاجرة على هجرة ما نهى الله عنه، والمعنى: أنه تعالى أنكر عليهم اختلافهم في نفاق من ظهر منه النفاق أي: من ظهر منه النفاق قطع بنفاقه، ولو لم يكونوا باديا نفاقهم، لما أطلق عليه اسم النفاق. وفي المنافقين متعلق بما تعلق به لكم، وهو كائن أي: أي شيء كائن لكم في شأن المنافقين. أو بمعنى فئتين أي: فرقتين في أمر المنافقين. وانتصب فئتين على الحال عند البصريين من ضمير الخطاب في لكم، والعامل فيها العامل في لكم. وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على إضمار كان أي: كنتم فئتين. ويجيزون مالك الشاتم أي: كنت الشاتم، وهذا عند البصريين لا يجوز، لأنه عندهم حال، والحال لا يجوز تعريفها.
* (والله أركسهم بما كسبوا) * أي: رجعهم وردهم في كفرهم قاله: ابن عباس، واختار الفراء والزجاج: أوبقهم. روى عن ابن عباس: أو أضلهم، قاله السدي. أو أهلكهم قاله قتادة، أو نكسهم قاله الزجاج. وكلها متقاربة. ومن عبر به عن الإهلاك فإنه أخذ بلازم الإركاس. ومعنى بما كسبوا أي: بما أجراه الله عليهم من المخالفة، وذلك الاركاس هو بخلق الله واختراعه، وينسب للعبد كسبا.
وقال الزمخشري: والله أرسكهم أي: ردهم في حكم المشركين كما كانوا بما كسبوا من ارتدادهم، ولحوقهم بالمشركين، واحتيالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم). أو أركسهم في الكفر بأن خذلهم حتى ارتكبوا فيه لما علم من مرض قلوبهم انتهى. وهو جار على عقيدته الاعتزالية، فلا ينسب الاركاس إلى الله حقيقة، بل يؤوله على معنى الخذلان وترك اللطف، أو على الحكم بكونهم من المشركين. إذ هم فاعلو الكفر ومخترعوه، لا الله تعالى الله عن قولهم.
وقرأ عبد الله: ركسهم ثلاثيا. وقرئ: ركسهم ركسوا فيها بالتشديد، قال الراغب: الركس والنكس الرذل، والركس أبلغ من النكس، لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه، والركس أصله ما رجع رجيما بعد أن كان طعاما فهو كالرجس وصف أعمالهم به، كما قال: * (إنما المشركون نجس) * وأركسه أبلغ من ركسه، كما أن أسقاه بلغ من سقاه انتهى. وهذه الجملة في موضع الحال، أنكر تعالى عليهم اختلافهم في هؤلاء المنافقين في حال أن الله تعالى قد ردهم في الكفر، ومن يرده الله إلى الكفر لا يختلف في كفره.
* (أتريدون أن تهدوا
(٣٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 321 322 323 324 325 326 327 328 329 330 331 ... » »»