تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٣
مجازا عن إرادة الله زيادة الهدى، وابن عطية أبقى الترجي على حقيقته، لكنه جعل ذلك بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى، إذ يستحيل الترجي من الله تعالى، وفي كلا القولين المجاز. أما في قول الزمخشري فحيث جعل الترجي بمعنى إرادة الله، وأما في قول ابن عطية فحيث أسند ما ظاهره الإسناد إليه تعالى إلى البشر.
* (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) * الأمر متوجه لمت بتوجه الخطاب عليهم. قيل: وهو الأوس والخزرج على ما ذكره الجمهور. وأمره لهم بذلك أمر لجميع المؤمنين، ومن تابعهم إلى يوم القيامة، فهو من الخطاب الخاص الذي يراد به العموم. ويحتمل أن يكون الخطاب عاما فيدخل فيه الأوس والخزرج. والظاهر أن قوله * (منكم) * يدل على التبعيض، وقاله: الضحاك والطبري. لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر، وكيف يرتب الأمر في إقامته، وكيف يباشر؟ فإن الجاهل ربما أمر بمنكر، ونهى عن معروف، وربما عرف حكما في مذهبه مخالفا لمذهب غيره، فينهى عن غير منكر ويأمر بغير معروف، وقد يغلظ في مواضع اللين وبالعكس. فعلى هذا تكون من للتبعيض، ويكون متعلق الأمر ببعض الأمة، وهم الذين يصلحون لذلك. وذهب الزجاج إلى أن من لبيان الجنس، وأتى على زعمه بنظائر من القرآن وكلام العرب، ويكون متعلق الأمر جميع الأمة يكونون يدعون جميع العالم إلى الخير، الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة. وظاهر هذا الأمر الفرضية، فالجمهور على أنه فرض كفاية، فإذا قام به بعض سقط عن الباقين. وذهب جماعة، من العلماء إلى أنه فرض عين، فيتعين على كل مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى قدر على ذلك وتمكن منه. واختلفوا في الذي يسقط الوجوب. فقال قوم: الخشية على النفس، وما عدا ذلك لا يسقطه. وقال قوم: إذا تحقق ضربا أو حبسا أو إهانة سقط عنه الفرض، وانتقل إلى الندب والأمر والنهي وإن كانا مطلقين في القرآن فقد تقيد ذلك بالسنة بقوله صلى الله عليه وسلم): (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) ولم يدفع أحد من علماء الأمة سلفها وخلفها وجوب ذلك الأقوم من الحشوية وجهال أهل الحديث، فإنهم أنكروا فعال الفئة الباغية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح، مع ما سمعوا من قوله تعالى: * (فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله) * وزعموا أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح. وقد ذكر أبو بكر الرازي في أحكامه فصلا مشبعا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكر فيه أن دماء أصحاب الضرائب والمكوس مباحة، وأنه يجب على المسلمين قتلهم، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار له ولا تقدم بالقول.
يدعون إلى الخير هو الإسلام قاله مقاتل، أو العمل بطاعة الله قاله أبو سليمان الدمشقي، أو الجهاد والإسلام. وقرأ الجمهور: ولتكن بسكون اللام. وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، والزهري، وعيسى بن عمر، وأبو حيوة: بكسرها، وعلة بنائها على الكسر مذكورة في النحو. وجوزوا في (ولتكن) أن تكون تامة، فيكون منكم متعلقا بها، أو بمحذوف على أنه حال، إذ لو تأخر لكان صفة لأمة. وأن تكون ناقصة، ويدعون الخبر، وتعلق من على الوجهين السابقين. وجوزوا أيضا أن يكون منكم الخبر، ويدعون صفة. ومحط الفائدة إنما هو في يدعون فهو الخبر.
و * (يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) * ذكر أولا الدعاء إلى الخير وهو عام في التكاليف من الأفعال والتروك، ثم جيء بالخاص إعلاما بفضله وشرفه لقوله: * (وجبريل وميكال
(٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 ... » »»