تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٤
و * (الصلواة * الوسطى) * وفسر بعضهم المعروف بالتوحيد، والمنكر بالكفر. ولا شك أن التوحيد رأس المعروف، والكفر رأس المنكر. ولكن الظاهر العموم في كل معروف مأمور به في الشرع، وفي كل منهي نهي عنه في الشرع. وذكر المفسرون أحاديث مروية في فضل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفي إثم من ترك ذلك، وآثارا عن الصحابة وغيرهم في ذلك، وما طريق الوجوب هل السمع وحده كما ذهب إليه أبو هاشم؟ أم السمع والعقل كما ذهب إليه أبوه أبو علي؟ وهذا على آراء المعتزلة. وأما شرائط النهي والوجوب، ومن يباشر، وكيفية المباشرة، وهل ينهى عما يرتكبه، لم تتعرض الآية لشيء من ذلك، وموضوع هذا كله علم الفقه.
وقرأ عثمان، وعبد الله، وابن الزبير: وينهون عن المنكر، ويستعينون الله على ما أصابهم. ولم تثبت هذه الزيادة في سواد المصحف، فلا يكون قرآنا. وفيها إشارة إلى ما يصيب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأذى كما قال تعالى: * (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك) * وأولئك هم المفلحون: تقدم الكلام على هذه الجملة في أول البقرة. وهو تبشير عظيم، ووعد كريم لمن اتصف بما قبل هذه الجملة.
* (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) * هذه والآية قبلها كالشرح لقوله تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) * فشرح الإعتصام بحبل الله بقوله: * (ولتكن منكم أمة) * ولا سيما على قول الزجاج. وشرح * (ولا تفرقوا) * بقوله: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا) * قال ابن عباس: هم الأمم السالفة التي افترقت في الدين. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى اختلفوا وصاروا فرقا. وقال: قتادة هم أصحاب البدع من هذه الأمة. زاد الزمخشري: وهم المشبهة، والمجبرة، والحشوية، وأشباههم. وقال أبو أمامة: هم الحرورية، وروي في ذلك حديث: قال بعض معاصرينا: في قول قتادة وأبي أمامة نظر، فإن مبتدعة هذه الأمة والحرورية لم يكونوا إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم) بزمان، وكيف نهى الله المؤمنين أن يكونوا كمثل قوم ما ظهر تفرقهم ولا بدعهم إلا بعد انقطاع الوحي وموت النبي صلى الله عليه وسلم)؟ فإنك لا تنهى زيدا أن يكون مثل عمرو إلا بعد تقدم أمر مكروه جرى من عمرو، وليس لقوليهما وجه إلا أن يكون تفرقوا واختلفوا من الماضي الذي أراد به المستقبل، فيكون المعنى: ولا تكونوا كالذين يتفرقون ويختلفون، فيكون ذلك من إعجاز القرآن وإخباره بما لم يقع ثم وقع. انتهى كلامه. والبينات على قول ابن عباس: آيات الله التي أنزلت على أهل كل ملة. وعلى قول الحسن: التوراة. وعلى قول قتادة وأبي أمامة: القرآن * (وأولئك لهم عذاب عظيم) * يتصف عذاب الله بالعظيم، إذ هو أمر نسبي يتفاوت فيه رتب المعذبين، كعذاب أبي طالب وعذاب العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم).
* (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * الجمهور على أن ابيضاض الوجوه واسودادها على حقيقة اللون. والبياض من النور، والسواد من الظلمة. قال الزمخشري: فمن كان من أهل نور الدين وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه، وابيضت صحيفته وأشرقت، وسعى النور بين يديه وبيمينه. ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده واسودت صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب. انتهى كلامه. وقال ابن عطية: وبياض الوجوه عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله قاله الزجاج وغيره. ويحتمل عندي أن تكون من آثار الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم): أأنتم الغر المحجلون) من آثار الوضوء. وأما سواد الوجوه فقال المفسرون: هو عبارة عن
(٢٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 ... » »»