تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٨١
أي: ليس يخطئون مواضع العطاء. قال ابن عباس وغيره: ومبادرة كبرهم أن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول: أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله.
وانتصب إسرافا وبدارا على أنهما مصدران في موضع الحال، أي: مسرفين ومبادرين. والبدار مصدر بادر، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين. لأن اليتيم مبادر إلى الكبر، والولي مبادر إلى خذ ماله، فكأنهما مستبقان. ويجوز أن يكون من واحد، وأجيز أن ينتصبا على المفعول من أجله، أي: لإسرافكم ومبادرتكم. وإن يكبروا مفعول بالمصدر، أي: كبركم كقوله: * (أو إطعام * يتيما) * وفي إعمال المصدر المنون خلاف. وقيل: التقدير مخافة أن يكبروا، فيكون أن يكبروا مفعولا من أجله، ومفعول بدارا محذوف.
* (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * ظاهر هذه الجملة يدل على أنه تقسيم لحال الوصي على اليتيم، فأمره تعالى بالاستعفاف عن ماله إن كان غنيا، واقتناعه بما رزقه الله تعالى من الغنى، وأباح له الأكل بالمعروف من مال اليتيم إن كان فقيرا، بحيث يأخذ قوتا محتاطا في تقديره.
وظاهر هذه الإباحة أنه لا تبعة عليه، ولا يترتب في ذمته ما أخذ مما يسد جوعته بما لا يكون رفيعا من الثياب، ولا يقضي إذا أيسر قاله: إبراهيم، وعطاء، والحسن، وقتادة، وعلى هذا القول الفقهاء. وقال عمرو، ابن عباس، وعبيدة، والشعبي، ومجاهد، وأبو العالية، وابن جبير: يقضي إذا أيسر، ولا يستلف أكثر من حاجته. وبه قال الأوزاعي. وقال ابن عباس أيضا وأبو العالية، والحسن، والشعبي: إنما يأكل بالمعروف إذا شرب من اللبن، وأكل من التمر، بما يهنأ الجرباء ويليط الحوض، ويجد التمر وما أشبهه. فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للولي أخذها.
وقالت طائفة: المعروف أن يكون له أجر بقدر عمله وخدمته، وهذه رواية عن الإمام أحمد. وفصل الحسن بن حي فقال: إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف، أو وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه، وأجرته على بيت المال. وفصل أبو حنيفة وصاحباه فقالوا: إن كان وصي اليتيم مقيما فلا يجوز له أن يأخذ من ماله شيئا، وإن كان مسافرا فله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئا. وفصل الشعبي فقال: إن كان مضطرا بحال من يجوز له أكل الميتة أكل بقدر حاجته ورد إذا وجد، وإلا فلا يأكل لا سفرا ولا حضرا. وقال مجاهد: هذه الإباحة منسوخة بقوله: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) *. وقال أبو يوسف: لعلها منسوخة بقوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * فليس له أن يأخذ قرضا ولا غيره. وقال ابن عباس والنخعي أيضا: هذا الأمر ليس متعلقا بمال اليتيم، والمعنى: أن الغني يستعفف بغناه، وأما الفقير فيأكل بالمعروف من مال نفسه، ويقوم على نفسه بماله حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه. واختار هذا القول من الشافعية الكيا الطبري. وقيل: إن كان مال اليتيم كثيرا يحتاج إلى قيام كثير عليه بحيث يشغل الولي عن مصالح نفسه ومهماته فرض له في مال اليتيم أجر عمله، وإن كان لا يشغله فلا يأكل منه شيئا، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن، وأكل قليل الطعام والسمن، غير مضربه ولا مستكثر منه على ما جرت به العادة والمسامحة. وقالت طائفة منهم ربيعة ويحيى بن سعيد:
هذا تقسيم لحال اليتيم، لا لحال الوصي. والمعنى: من كان منهم غنيا فليعف بماله، ومن كان منهم فقيرا فليقتر عليه بالمعروف والاقتصاد. ويكون من خطاب العين، ويراد به الغير. خوطب اليتامى بالاستعفاف والأكل بالمعروف، والمراد الأولياء. لأن اليتامى ليسوا من أهل الخطاب، فكأنه قال للأولياء والأوصياء: إن كان اليتيم غنيا فانفقوا عليه نفقة متعفف مقتصد لئلا يذهب ماله بالتوسع في نفقته، وإن كان فقيرا فلينفق عليه بقدر ماله لئلا يذهب فيبقى كلا مضعفا.
فهذه أقوال ملخصها: هل تقسيم في الولي أو الصبي قولان: فإذا كان في الولي فهل الأمر متوجه إلى مال نفسه، أو مال الصبي؟ قولان. وإذا كان متوجها إلى مال الصبي، هل ذلك منسوخ أم لا؟ قولان. وإذا لم يكن منسوخا، فهل يكون تفصيلا بالنسبة إلى الأكل أو المأكول؟ قولان. فإذا كان بالنسبة إلى الأكل، فهل يختص بولي الأب،
(١٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 176 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 ... » »»