تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٧٠
الشرعي فينطلق على الصغيرات اللاتي لم يبلغن.
وقد استدل بذلك أبو حنيفة على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ وقال: أما بعد البلوغ فليست يتيمة، بدليل أنها لو أرادت أن تحط عن صداق مثلها جاز لها. خلافا لمالك والشافعي والجمهور إذ قالوا: لا يجوز وإن كان المراد اليتم اللغوي، فيندرج فيه البالغات، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيت، فأي معنى للعدول إلى نكاح غيرها؟ والجواب: أن العدول إنما كان لأن الولي يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته، وإذا كان المراد باليتامى هنا البالغات فلا حجة لأبي حنيفة في الآية على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ. ومعنى: خفتم حذرتم، وهو على موضوعه في اللغة من أن الخوف هو الحذر. وقال أبو عبيدة: معنى خفتم هنا أيقنتم، وخاف تكون بمعنى أيقن، ودليله قول الشاعر:
فقلت لهم خافوا بألفي مدحج وما قاله لا يصح، لا يثبت من كلام العرب خاف بمعنى أيقن، وإنما خاف من أفعال التوقع، وقد يميل فيه الظن إلى أحد الجائزين. وقد روى ذلك البيت: فقلت لهم: ظنوا بألفي مدحج. هذه الرواية أشهر من خافوا. قال الراغب: الخوف يقال فيما فيه رجاء ما، ولهذا لا يقال: خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء، أو نسف الجبال انتهى.
ومعنى أن لا تقسطوا أي: أن لا تعدلوا. أي: وإن خفتم الجوز وأقسط: بمعنى عدل. وقرأ النخعي وابن وثاب تقسطوا بفتح التاء من قسط، والمشهور في قسط أنه بمعنى جار. وقال الزجاج: ويقال قسط بمعنى أقسط أي عدل. فإن حملت هذه القراءة على مشهور اللغة كانت لا زائدة، أي: وإن خفتم أن تقسطوا أي: إن تجوروا، والآن لا يتم إلا باعتقاد زيادتها. وإن حملت على أن تقسطوا بمعنى تقسطوا، كانت للنفي كما في تقسطوا.
وقرأ ابن أبي عبلة من طاب. وقرأ الجمهور: ما طاب. فقيل: ما بمعنى من، وهذا مذهب من يجوز وقوع ما على آحاد العقلاء، وهو مذهب مرجوح. وقيل: عبر بما عن النساء، لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء. وقيل: ما واقعة على النوع، أي: فانكحوا النوع الذي طاب لكم من النساء، وهذا قول أصحابنا أن ما تقع على أنواع من يعقل. وقال أبو العباس: ما لتعميم الجنس على المبالغة، وكان هذا القول هو القول الذي قبله. وقيل: ما مصدرية، والمصدر مقدر باسم الفاعل. والمعنى: فانحوا النكاح الذي طاب لكم. وقيل: ما نكرة موصوفة، أي: فانكحوا جنسا أو عددا يطيب لكم. وقيل: ما ظرفية مصدرية، أي: مدة طيب النكاح لكم. والظاهر أن ما مفعولة بقوله: فانكحوا، وأن من النساء معناه: من البالغات. ومن فيه إما لبيان الجنس للإبهام الذي في ما على مذهب من يثبت لها هذا المعنى، وإما للتبعيض وتتعلق بمحذوف أي: كائنا من النساء، ويكون في موضع الحال. وأما إذا كانت ما مصدرية أو ظرفية، فمفعول فانكحوا هو من النساء، كما تقول: أكلت من الرغيف، والتقدير فيه: شيئا من الرغيف. ولا يجوز أن يكون مفعول فانكحوا مثنى، لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر في المفردات.
وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش طاب بالإمالة. وفي مصحف أبي
(١٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 165 166 167 168 169 170 171 172 173 174 175 ... » »»