تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٠٨
المؤمنين أفضل من بعض. وقيل: يعود على الغال وتارك الغلول، والدرجة: الرتبة. وقال الرازي: تقديره لهم درجات. قال بعض المصنفين رادا عليه: اتبع الرازي في ذلك أكثر المفسرين بجهله وجهلهم بلسان العرب، لأن حذف لام الجر هنا لا مساغ له، لأنه إنما تحذف لام الجر في مواضع الضرورة، أو لكثرة الاستعمال، وهذا ليس من تلك المواضع. على أن المعنى دون حذفها حسن متمكن جدا، لأنه لما قال: أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله، وكأنه منتظر للجواب قيل له في الجواب: لا، ليسوا سواء، بل هم درجات.
* (عند الله) * على حسب أعمالهم. وهذا معنى صحيح لا يحتاج معه إلى تقدير حذف اللام، لو كان سائغا كيف وهو غير سائغ انتهى كلام المصنف. ويحمل تفسير ابن عباس والحسن أن المعنى: لكل درجات من الجنة والنار على تفسير المعنى، لا تفسير اللفظ الأعرابي. والظاهرمن قولهم: هم درجات، أن الضمير عائد على الجميع، فهم متفاوتون في الثواب والعقاب، وقد جاء التفاوت في العذاب كما جاء التفاوت في الثواب. ومعنى عند الله على هذا القول: في حكم الله. وقيل: الضمير يعود على أهل الرضوان، فيكون عند الله معناها التشريف والمكانة لا المكان. كقوله: * (عند مليك مقتدر) * والدرجات إذ ذاك مخصوصة بالجنة وهذا معنى قول: ابن جبير وأبي صالح ومقاتل، وظاهر ما قاله مجاهد والسدي. والدرجات المنازل بعضها أغلى من بعض من المسافة أو في التكرمة. وقرأ الجمهور درجات، فهي مطابقة للفظ هم. وقرأ النخعي درجة بالإفراء.
* (والله بصير بما يعملون) * أي: عالم بأعمالهم ودرجاتها، فمجازيهم على حسبها.
وتضمنت هذه الآيات الطباق في: ينصركم ويخذلكم، وفي رضوان الله وبسخط. والتكرار في: ينصركم وينصركم، وفي الجلالة في مواضع. والتجنيس المماثل: في يغل وما غل. والاستفهام الذي معناه في: أفمن اتبع الآية. والاختصاص في: فليتوكل المؤمنون، وفي: وما كان لنبي، وفي: بما يعملون خص العمل دون القول لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء. والحذف في عدة مواضع.
2 (* (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين * أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هاذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شىء قدير * ومآ أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا فى سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم والله أعلم بما يكتمون * الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين * ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بمآ ءاتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *)) 2.
* (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) * مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر الفريقين: فريق الرضوان، وفريق السخط، وأنهم درجات عند الله مجملا من غير تفصيل، فصل أحوالهم وبدأ بالمؤمنين، وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تاليا لآيات الله، ومبينا لهم طريق الهدى، ومطهرا لهم من أرجاس الشرك، ومنقذا لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها. وسلاهم عما أصابهم يوم أحد من الخذلان والقتل والجرح، لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة. ثم فصل حال المنافقين الذين هم أهل السخط بما نص عليه تعالى.
ومعنى من تطول وتفضل، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون ببعثه، والظاهر عمومه. فعلى هذا يكون معنى من أنفسهم من أهل ملتهم، كما قال: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * والمعنى: من جنس بني آدم، والامتنان بذلك لحصول الأنس بكونه من الإنس، فيسهل المتلقى منه، وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين، ولمعرفة قوى جنسهم. فإذا ظهرت المعجزة أدركوا أن ذلك ليس في قوى بني آدم، فعلموا أنه من عند الله، فكان ذلك داعية إلى الإجابة. ولو كان الرسول من غير الجنس لتخيل أن تلك المعجزة هي في طباعه، أشار إلى هذه العلة الماتريدي.
وقيل: المراد بالمؤمنين العرب، لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا
(١٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 ... » »»