تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٠٥
والآثار. وذكر ابن عطية: إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف له. والمستشار في الدين عالم دين، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله، وفي الأمور الدنيوية عاقل مجرب وادفى المستشير انتهى كلام ابن عطية، وفيه بعض تلخيص. وقراءة الجمهور: في الأمر، وليس على العموم. إذ لا يشاور في التحليل والتحريم. والأمر: اسم جنس يقع للكل وللبعض. وقرأ ابن عباس: في بعض الأمر * (فإذا عزمت فتوكل على الله) * أي: فإذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعل تفويضك فيه إلى الله تعالى، فإنه العالم بالأصلح لك، والأرشد لأمرك، لا يعلمه من أشار عليك. وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه، والفكر فيه. وإن ذلك مطلوب شرعا خلافا لما كان عليه بعض العرب من: ترك المشورة، ومن: الاستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة، كما قال:
* إذا هم ألقى بين عينيه عزمه * ونكب عن ذكر العواقب جانبا * * ولم يستشر في رأيه غير نفسه * ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا * وقرأ الجمهور عزمت على الخطاب كالذي قبله. وقرأ عكرمة وجابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر الصادق عزمت بضم التاء على أنها ضمير لله تعالى والمعنى فإذا عزمت لك على شيء أي أرشدتك إليه وجعلتك تقصده ويكون قوله على الله من باب الالتفات إذ لو جرى على نسق ضم التاء لكان فتوكل علي ونظيره في نسبة العزم إلى الله على سبيل التجوز قول أم سلمة، ثم عزم الله * (إن الله يحب المتوكلين) * حث على التوكل على الله، إذ أخبر أنه يحب من توكل عليه، والمرء ساع فيما يحصل له محبة الله تعالى.
وقد تضمنت هذه الآيات فنونا من البيان والبديع والإبهام في: ولا تلوون على أحد، فمن قال: هو الرسول أبهمه تعظيما لشأنه، ولأن التصريح فيه هضم لقدره. والتجنيس المماثل في: غما بغم، ثم أنزل عليكم من بعد الغم. والطباق: في يخفون ويبدون، وفي فاتكم وأصابكم. والتجنيس المغاير في: تظنون وظن، وفي فتوكل والمتوكلين. وذكر بعضهم ذلك في فظا ولا تفضوا، وليس منه، لأنه قد اختلفت المادتان والتفسير بعد الإبهام في ما لا يبدون يقولون. والاحتجاج النظري في: لو كنتم في بيوتكم والاعتراض في: قل إن الأمر كله لله. والاختصاص في: بذات الصدور، وفي بما تعملون بصير، وفي يحب المتوكلين. والإشارة في قوله: ليجعل الله ذلك حسرة. والاستعارة في: إذا ضربوا في ا لأرض، وفي لنت، وفي غليظ القلب، والتكرار في: ما ماتوا، وما قتلوا، وما بعدهما، وفي: على الله إن الله. وزيادة الحرف للتأكيد في: فبما رحمة. والالتفات والحذف في عدة مواضع.
* (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده) * هذا التفات، إذ هو خروج من غيبة إلى الخطاب. ولما أمره بمشاورتهم وبالتوكل عليه، أوضح أن ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع لما يشاء. وأنه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم فيما وقع لكم من النصر، أو بكم من الخذلان كيومي: بدر وأحد، فبمشيئته. وفي هذا تسلية لهم عما وقع لهم من الفرار. ثم أمرهم بالتوكل، وناط الأمر بالمؤمنين، فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإيمان، لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان. وأشركهم مع نبيهم في مطلوبية التوكل، وهو إضافة الأمور إلى الله تعالى وتفويضها إليه.
والتوكل على الله من فروض الإيمان، ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والجزامة بغاية الجهد، ومعاطاة أسباب التحرز، وليس الإلقاء باليد والإهمال لما يجب مراعاته بتوكل، وإنما هو كما قال صلى الله عليه وسلم): (قيدها وتوكل) ونظير هذه الآية: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) * والضمير في من بعده عائد على الله تعالى، إما على حذف مضاف أي: من بعد خذلانه، أي من بعد ما يخذل من الذي ينصر
(١٠٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 ... » »»