تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٠٦
وإما أن لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف، بل يكون المعنى: إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك؟ ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على المصدر المفهوم من قوله: وإن يخذلكم، أي: من بعد الخذلان. وجاء جواب: إن ينصركم الله بصريح النفي العام، وجواب وإن يخذلكم يتضمن النفي وهو الاستفهام، وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم، بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر، وإن كان المعنى على نفي الناصر. لكن فرق بين الصريح والمتضمن، فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذي نص عليه بالصريح أنه لا ناصر لهم كقوله: * ( أهلكناهم فلا ناصر لهم) * وظاهره النصرة أنها في لقاء العدو، والإعانة على مكافحته، والاستيلاء عليه. وأكثر المفسرين جعلوا النصرة بالحجة القاهرة، وبالعاقبة في الآخرة. فقالوا: المعنى إن حصلت لكم النصرة فلا تعدوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غلبة، وإن خذلكم في ذلك فلا تعدوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نصرة، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل. وفي قوله: إن ينصركم الله إشارة إلى الترغيب في طاعة الله، لأنه بين فيما تقدم أن من اتقى الله نصره.
وقال الزمخشري في قوله: وعلى الله، وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه، علمهم أنه لا ناصر سواه، ولأن إيمانكم يوجب ذلك ويقتضيه انتهى كلامه. وأخذ الاختصاص من تقديم الجار والمجرور وذلك على طريقته، بأن تقديم المفعول يوجب الحصر والاختصاص. وقرأ الجمهور: يخذلكم من خذل. وقرأ عبيد بن عمير: يخذلكم من أخذل رباعيا. والهمزة فيه للجعل أي: يجعلكم * (وما كان لنبى أن يغل) * قال ابن عباس، وعكرمة، وابن جبير: فقدت قطيفة حمراء من المغانم يوم بدر فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم): لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أخذها، فنزلت، وقائل ذلك مؤمن لم يظن في ذلك حرجا. وقيل: منافق، وروي أن المفقود سيف. وقال النقاش: قالت الرماة يوم أحد: الغنيمة الغنيمة، أيها الناس إنا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم) من أخذ شيئا فهو له، فلما ذكروا ذلك قال: (خشيتم أن نغل) فنزلت. وروي نحوه عن الكلبي ومقاتل. وقيل غير هذا من ذلك ما قال ابن إسحاق: إنما نزلت إعلاما بأن النبي صلى الله عليه وسلم) لم يكتم شيئا مما أمر بتبليغه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها من حيث أنها تضمنت حكما من أحكام الغنائم في الجهاد، وهي من المعاصي المتوعد عليها بالنار كما جاء في قصة مدعم، فحذرهم من ذلك. وتقدم لنا الكلام في معنى ما كان لزيد أن يفعل. وقرأ ابن عباس وابن كثير وأبو عمرو وعاصم أن يغل من غل مبنيا للفاعل، والمعنى: أنه لا يمكن ذلك منه، لأن الغلول معصية، والنبي صلى الله عليه وسلم) معصوم من المعاصي، فلا يمكن أن يقع في شيء منها. وهذا النفي إشارة إلى أنه لا ينبغي أن أن يتوهم فيه ذلك، ولا أن ينسب إليه شيء من ذلك. وقرأ ابن مسعود وباقي السبعة: أن يغل بضم الياء وفتح الغين مبنيا للمفعول. فقال الجمهور: هو من غل. والمعنى: ليس لأحد أن يخونه في الغنيمة، فهي نهي للناس عن الغلول في المغانم، وخص النبي صلى الله عليه وسلم) بالذكر وإن كان ذلك حراما مع غيره، لأن المعصية بحضرة النبي أشنع لما يحب من تعظيمه وتوقيره، كالمعصية بالمكان الشريف، واليوم المعظم. وقيل: هو من أغل رباعيا، والمعنى: أنه يوجد غالا كما تقول: أحمد الرجل وجد محمودا. وقال أبو علي الفارسي: هو من أغل أي نسب إلى الغلول. وقيل له: غللت كقولهم: أكفر الرجل، نسب إلى الكفر.
* (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) * ظاهر هذا أنه يأتي بعين ما غل، ورد ذلك في صحيح
(١٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 ... » »»