تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١١٢
نصب التشبيه بالمفعول به، فتقدير الزمخشري: أنى هذا، من أين هذا تقدير غير سائغ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله: من عند أنفسكم، وقوله: من عند الله، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها. وأما على ما قررناه، فإن الجواب جاء على مراعاة المعنى، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ. وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقا له في اللفظ، ومراعي فيه المعنى لا اللفظ. والسؤال بأبي سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر، والجواب بقوله: من عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية، لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى. لو قيل على سبيل التعجب والإنكار: كيف لا يحج زيد الصالح، وأجيب ذلك بأن يقال: بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى، أنه لا يحج وهو غير مستطيع.
* (قل هو من عند أنفسكم) * الإضمار في هو راجع إلى المصيبة على المعنى، لا على اللفظ. وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين: أهو القتل المقابل للقتل والأسر، أو المقابل للقتل فقط؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين؟ والمعنى: أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم. فقيل: هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن الله تعالى، قال معناه: عمر بن الخطاب، وعلي، والحسن، وروى علي في ذلك: أنه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم) فقال: (يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم) الناس، فذكر ذلك لهم فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وأخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا، ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره). فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا. وقال الجمهور: هو مخالفة الرسول في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك الكفار بشر مجلس، فخالفوا وخرجوا حتى جرت القصة. وقالت طائفة منهم ابن عباس، ومقاتل: هو عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين. وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص. فقال: المعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة، أو لتخليتكم المركز. وعن علي: لأخذكم الفداء من أساري بدر قبل أن يؤذن لكم انتهى. ولم يعين الله تعالى السبب ما هو لطفا بالمؤمنين في خطابه تعالى لهم. والظاهر في قوله: (أنى هذا) هو من سؤال المؤمنين على سبيل التعجب.
وذكر الرازي أن الله لما حكى عن المنافقين طعنهم في الرسول بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم: لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره يوم أحد، وهو المراد من قولهم: أنى هذا. فأجاب عنه بقوله: قل هو من عند أنفسكم، أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم انتهى كلامه. ودل على أن قوله: أنى هذا من كلام المنافقين. وقال الماتريدي أيضا: إنه من كلام المنافقين. والظاهر ما قلناه أنه من كلام المؤمنين، وهم المخاطبون بقوله: (أو لما أصابتكم مصيبة) لأن المنافقين لم تصبهم مصيبة، لأنهم رجعوا مع عبد الله بن أبي ولم يحضروا القتال، إلا أن تجوز في قوله: أصابتكم مصيبة بمعنى أصابت أقرباءكم وأخوانكم، فهو يمكن على بعد.
* (إن الله على كل شىء قدير) * أي قادر على النصر، وعلى منعه، وعلى أن يصيب بكم تارة، ويصيب منكم أخرى. ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم، لا لضعف في قدرة الله، لأن من هو قادر على كل شيء
(١١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 ... » »»