آخر: إن كنتم صادقين في قولكم: لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا، يعني: أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين، كما قتلوا مقاتلين. وقوله: فادرؤا عن أنفسكم الموت، استهزاء بهم، أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا انتهى كلامه. وهو حسن على طوله.
* (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * قيل: هم قتلى أحد، وقيل: شهداء بئر معونة. وقيل: شهداء بدر. وهل سبب ذلك قول من استشهد وقد دخل الجنة فأكل كل من ثمارها: من يبلغ عنا إخواننا أنا في الجنة نرزق، لا تزهدوا في الجهاد. فقال الله: أنا أبلغ عنكم، فنزلت. أو قول من لم يستشهد من أولياء الشهداء: إذا أصابتهم نعمة نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا وأخواننا في القبور، فنزلت.
وقرأ الجمهور: ولا تحسبن بالتاء، أي ولا تحسبن أيها السامع. وقال الزمخشري: الخطاب لرسول صلى الله عليه وسلم)، أو لكل أحد. وقرأ حميد بن قيس وهشام بخلاف عنه بالياء، أي: ولا يحسبن هو، أي: حاسب واحد. قال ابن عطية: وأرى هذه القراءة بضم الياء، فالمعنى: ولا يحسبن الناس انتهى.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلا، ويكون التقدير: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا، أي: لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. (فإن قلت): كيف جاز حذف المفعول الأول؟ (قلت): هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله: أحياء. والمعنى: هم أحياء لدلالة الكلام عليها انتهى كلامه. وما ذهب إليه من أن التقدير: ولا تحسبنهم الذين قتلوا أمواتا لا يجوز، لأن فيه تقديم المضمر على مفسره، وهو محصور في أماكن لا تتعدى وهي باب: رب بلا خلاف، نحو: ربه رجلا أكرمته، وباب نعم وبئس في نحو: نعم رجلا زيد على مذهب البصريين، وباب التنازع على مذهب سيبويه في نحو: ضرباني وضربت الزيدين، وضمير الأمر والشأن وهو المسمى بالمجهول عند الكوفيين نحو: هو زيد منطلق، وباب البدل على خلاف فيه بين البصريين في نحو: مررت به زيد، وزاد بعض أصحابنا أن يكون الظاهر المفسر خبرا للضمير، وجعل منه قوله تعالى: * (وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا) * التقدير عنده: ما الحياة إلا حياتنا الدنيا. وهذا الذي قدره الزمخشري ليس واحدا من هذه الأماكن المذكورة. وأما سؤاله وجوابه فإنه قد يتمشى على رأي الجمهور في أنه: يجوز حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها اختصارا، وحذف الاختصار هو لفهم المعنى، لكنه عندهم قليل جدا. قال أبو علي الفارسي: حذفه عزيز جدا، كما أن حذف خبر كان كذلك، وإن اختلفت جهتا القبح انتهى. قول أبي علي. وقد ذهب الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن ملكون الحضرمي الإشبيلي إلى منع ذلك اقتصارا، والحجة له وعليه مذكورة في علم النحو. وما كان بهذه المثابة ممنوعا عند بعضهم عزيزا حذفه عند الجمهور، ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى. فتأويل من تأول الفاعل مضمرا يفسره المعنى، أي: لا يحسبن هو أي أحد، أو حاسب أولى. وتنفق القراءتان في كون الفاعل ضميرا وإن اختلفت بالخطاب والغيبة.
وتقدم الكلام على معنى موت الشهداء وحياتهم في قوله: * (ولا تقولوا