تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٦٠
ولا ينقص. وفيه أن يكون الكاتب فقيها عالما بالشروط، حتى يجيء مكتوبه معدلا بالشرع، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها دينا.
وقال ابن عطية: والباء متعلقة بقوله تعالى: وليكتب، وليست متعلقة بكاتب، لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها، أما أن المنتخبين لكتبها لا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين، وقيل: الباء زائدة، أي فليكتب بينكم كاتب العدل.
وقال القفال في معنى * (بالعدل) *: أن يكون ما يكتبه متفقا عليه بين أهل العلم، لا يرفع إلى قاض فيجد سبيلا إلى إبطاله بألفاظ لا يتسع فيها التأويل، فيحتاج الحاكم إلى التوقف.
وقرأ الحسن: وليكتب، بكسر لام الأمر، والكسر الأصل.
* (يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * نهى الكاتب عن الامتناع من الكتابة. و: كاتب، نكرة في سياق النهي، فتعم. وأن يكتب مفعول، ولا يأب، ومعنى: كما علمه الله، أي: مثل ما علمه الله من كتابة الوثائق، لا يبدل ولا يغير، وفي ذلك حث على بذل جهده في مراعاة شروطه مما قد لا يعرفه المستكتب، وفيه تنبيه على المنة بتعليم الله إياه.
وقيل: المعنى كما أمره الله به من الحق، فيكون: علم، بمعنى: أعلم، وقيل: المعنى كما فضله الله بالكتاب، فتكون الكاف للتعليل، أي: لأجل ما فضله الله، فيكون كقوله * (وأحسن كما أحسن الله إليك) * أي: لأجل إحسان الله إليك. والظاهر تعلق الكاف بقوله: أن يكتب، وقيل: تم الكلام عند قوله: أن يكتب، وتتعلق الكاف بقوله: فليكتب، وهو قلق لأجل الفاء، ولأجل أنه لو كان متعلقا بقوله: فليكتب، لكان النظم: فليكتب كما علمه الله، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخر في المعنى.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون: كما، متعلقا بما في قوله: ولا يأب، أي: كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو، وليفضل كما أفضل عليه. انتهى. وهو خلاف الظاهر. وتكون الكاف في هذا القول للتعليل، وإذا كان متعلقا بقوله: أن يكتب، كان قوله: ولا يأب، نهيا عن الامتناع من الكتابة المقيدة، ثم أمر بتلك الكتابة، لا يعدل عنها، أمر توكيد. وإذا كان متعلقا بقوله: فليكتب، كان ذلك نهيا عن الامتناع من الكتابة على الإطلاق، ثم أمر بالكتابة المقيدة.
وقال الربيع، والضحاك: ولا يأب، منسوخ بقوله: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) *.
* (فليكتب وليملل الذى عليه الحق) * أي: فليكتب الكاتب، وليملل من وجب عليه الحق، لأنه هو المشهود عليه بأن الدين في ذمته، والمستوثق منه بالكتابة.
* (وليتق الله ربه) *، فيما يمليه ويقربه، وجمع بين اسم الذات وهو: الله، وبين هذا الوصف الذي هو: الرب، وإن كان اسم الذات منطوقا على جميع الأوصاف. ليذكره تعالى كونه مربيا له، مصلحا لأمره، باسطا عليه نعمه. وقدم لفظ: الله، لأن مراقبته من جهة العبودية والألوهية أسبق من جهة النعم.
* (ولا يبخس منه شيئا) * أي: لا ينقص بالمخادعة أو المدافعة، والمأمور بالإملال هو المالك لنفسه. وفك المضاعفين في قوله: وليملل، لغة الحجاز، وذلك في ماسكن آخره بجزم، نحو، هذا، أو وقف نحو: أملل، ولا يفك في رفع ولا نصب وقرئ: شيئا، بالتشديد.
* (فإن كان الذى عليه الحق سفيها) * قال مجاهد، وابن جبير: هو الجاهل بالأمور والإملاء. وقال الحسن: الصبي والمرأة، وقال الضحاك، والسدي: الصغير. وضعف هذا لأنه قد يصدق السفيه على الكبير، وذكر القاضي أبو يعلى: أنه المبذر. وقال الشافعي: المبذر لماله المفسد لدينه وروي عن السدي: أنه الأحمق، وقيل: الذي
(٣٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 355 356 357 358 359 360 361 362 363 364 365 ... » »»