تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٩٩
احتمالا هو قول المعتزلة، قالوا: الهاء كناية عن إبراهيم لا عن الكافر الذي حاجه، لأن الله تعالى قال: * (لا ينال عهدي الظالمين) * والملك عهد منه، وقال تعالى: * (ما ءاتاهم الله من فضله فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما * الحكمة * أم يحسدون الناس) * ورد قول المعتزلة بأن إبراهيم ما عرف بالملك، وبقول الكافر: أنا أحيي وأميت، ولو كان إبراهيم الملك لما كان يقدر على محاجته في مثل هذه الحالة، وبأنه لما قال: أنا أحيي وأميت، جاء برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، ولو لم يكن ملكا لم يقتل بين يدي إبراهيم بغير إذنه، إذ كان إبراهيم هو الملك، ولا يرد على المعتزلة بهذه الأوجه، لأن إثبات ملك النبوة لإبراهيم لا ينافي ملك الكافر، لأنهما ملكان: أحدهما: بفضل الشرف في الدين كالنبوة والإمامة. والآخر: بفضل المال والقوة والشجاعة والقهر والغلبة والاتباع. وحصول الملك للكافر بهذا المعنى يمكن، بل هو واقع مشاهد.
وقال الزمخشري: * (فان * قلت) *: كيف جاز أن يؤتى الله الملك الكافر؟
* (قلت) *: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع، وأما التغليب والتسليط فلا، وقيل: ملكة امتحانا لعباده. إنتهى. وفيه نزغة اعتزالية، وهو قوله: وأما التغليب والتسليط فلا، لأنه عندهم هو الذي تغلب وتسلط، فالتغليب والتسليط فعله لا فعل الله عندهم.
* (ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى) * هذا من إبراهيم عن سؤال سبق من الكافر، وهو أن قال: من ربك؟ وقد تقدم في قصته شيء من هذ، وإلا فلا يببتدأ كلام بهذا.
واختص إبراهيم من آيات الله بالإحياء والإماتة لأنهما أبدع آيات الله وأشهرها، وأدلها على تمكن القدرة، والعامل في إذ حاج، وأجاز الزمخشري أن يكون بدلا من: أن آتاه، إذا جعل بمعنى يالوقت، وقد ذكرنا ضعف ذلك، وأيضا فالظرفان مختلفان إذ وقت إيتاء الملك ليس وقت قوله: * (ربي الذى يحى ويميت) * وفي قول إبراهيم: * (ربي الذى يحى ويميت) * تقوية لقول من قال إن الضمير في قوله: في ربه، عائد على إبراهيم.
وربي الذي يحيي ويميت، مبتدأ وخبر، وفيه إشارة إلى أنه هو الذي أوجد الكافر ويحييه ويميته، كأنه قال: ربي الذي يحيي ويميت هو متصرف فيك وفي أشباهك بما لا تقدر عليه أنت ولا أشباهك من هذين الوصفين العظميين المشاهدين للعالم اللذين لا ينفع فيهما حيل الحكماء ولا طب الأطباء، وفيه إشارة أيضا إلى المبدأ والمعاد وفي قوله: * (ألم تر إلى) * دليل على الاختصاص لأنهم قد ذكروا أن الخبر، إذا كان بمثل هذا، دل على الاختصاص، فتقول: زيد الذي يصنع كذا، أي: المختص بالصنع.
* (قال إبراهيم ربي) * لما ذكر إبراهيم أن ربه الذي يحيي ويميت عارضه الكافر بأنه بحيي ويميت، ولم يقل: أنا الذي يحيي ويميت، لأنه كان يدل على الاختصاص، وكان الحس يكذبه إذ قد حيي ناس قبل وجوده وماتوا، وإنما أراد أن هذا الوصف الذي ادعيت فيه الاختصاص لربك ليس كذلك، بل أنا مشاركه في ذلك. قيل: أحضر رجلين، قتل أحدهما وأرسل الآخر، وقيل: أدخل أربعة نفر بيتا حتى جاعوا، فأطعم اثنين فحييا، وترك اثنين فماتا، وقيل: أحيا بالمباشرة وإلقاء النطفة، وأمات بالقتل.
وقرأ نافع باثبات ألف: أنا إذا كان بعدها همزة مفتوحة أو مضمر. وروى أبو نشيط إثباتها مع الهمزة المكسورة. وقرأ الباقون بحذف الألف، وأجمعوا على إثباتها في الوقف، وإثبات الألف وصلا ووقفا لغة بني تميم، ولغة غيرهم حذفها في الوصل، ولا تثبت عند غير بني تميم وصلا إلا في ضرورة الشعر نحو قوله:
* فكيف أنا وانتحالي القوافي * بعد المشيب كفى ذاك عارا *
(٢٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 294 295 296 297 298 299 300 301 302 303 304 ... » »»