تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٩٨
مكان الآخر، أعني: جمع القلة مكان جمع الكثرة، والعكس وكما جاء: بأننفسهن وأن النكاح يجمع النفس على نفوس في الكثرة، وقد يكثر استعمال أحد الجمعين، فيكون ذلك سببا للإتيان به في موضع الآخر ويبقى الآخر قريبا من المهمل، وذلك نحو: شسوع أوثر على أشساع لقلة استعمال أشساع، وإن لم يكن شاذا، لأن شسعا ينقاس فيه أفعال؛ وقيل: وضع بمعنى الكثرة، لأن كل مطلقة تتربص ثلاثة قروء؛ وقيل: أوثر قروء على أقراء لأن واحده قرء، بفتح القاف، وجمع فعل على أفعال شاذ، وأجاز المرد: ثلاثة حمير، وثلاثة كلاب، على إرادة: من كلاب، ومن حمير. فقد يتخرج على ما أجازه: ثلاثة قروء، أي: من قروء.
وتوجيه تشديد الواو، وهو أنه أبدل من الهمزة واوا وأدغمت واو فعول فيها، وهو تسهيل جائز منقاس، وتوجيه قراءة الحسن أنه أضاف العدد إلى اسم الجنس، إذ اسم الجنس يطلق على الواحد وعلى الجمع على حسب ما تريد من المعنى، ودل العدد على أنه لا يراد به الواحد.
* (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن) * المنهي عن كتمانه الحيض، تقول لست حائضا وهي حائض، أو حضت وما حاضت، لتطويل العدة واستعجال الفرقة، قال عكرمة، والنخعي، والزهري. أو: الحبل، قاله عمر، وابن عباس. أو الحيض والحبل معا، قاله ابن عمر، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد، والربيع، ولهن في كتم ذلك مقاصد، فأخبر الله تعالى أن كتم ذلك حرام؛ ودل قوله: * (ولا يحل لهن أن يكتمن) * أنهن مؤمنات على ذلك، ولو أبيح الاستقصاء لم يمكن الكتم؛ وقال سليمان بن يسار: لم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن، ولكن وكل ذلك اليهن، إذ كن مؤتمنات. إنتهى. وأجمع أهل العلم على أنه لا يجوز أن تكتم المرأة ما خلق الله في رحمها من حمل ولا حيض، وفيه تغليط، وإنكار.
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد: اللاتي تبغين إسقاط ما في بطونهن من الآجنة، فلا يعترفن به، ويجحدنه لذلك فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن اسقاطه. إنتهى كلامه، والآية تحتمله.
قال ابن المنذر: كل من حفظت عنه من أهل العلم قال: إذا قالت المرأة في عشرة أيام حضت إنها لا تصدق، ولا يقبل ذلك منها إلا أن تقول: قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه، واختلفوا في المدة التي تصدق فيها المرأة فقال مالك: إن ادعت الانقضاء في أمد تنقضي العدة في مثله، قبل قولها: أو في مدة تقع نادرا، فقولان، قال في (المدونة) إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر، صدقت إذا صدقها النساء، وبه قال علي وشريح، وقال في كتاب (محمد) لا تصدق إلا في شهر ونصف، ونحو منه قول أبي ثور، أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يوما، وقيل: لا تصدق في أقل من ستين يوما.
وروي عن علي أنه استحلف امرأة لم تستكمل الحيض، وقضى بذلك عثمان.
و: لهن، متعلق: بيحل، واللام للتبليغ، و: ما، في: ما خلق، الأظهر أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، وجوز أن تكون نكرة موصوفة، والعائد محذوف أيضا التقدير: خلقه. و: في أرحامهن، متعلق، بخلق، وجور أن تكون في أرحامهن حالا من المحذوف، قيل: وهي حال مقدرة، لأنه وقت خلقه ليس بشيء حتى يتم خلقه.
وقرأ مبشر بن عبيد: في أرحامهن وبردهن، بضم الهاء فيهما والضم هو الأصل، وإنما كسرت لكسرة ما قبلها.
* (إن كن يؤمن بالله واليوم الاخر) *. هذا شرط جوابه محذوف على الأصح من المذاهب، حذف لدلالة ما قبله عليه، ويقدر هنا من لفظه، أي: إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يحل لهن ذلك والمعنى: أن من اتصف بالإيمان لا يقدم على ارتكاب ما لا يحل له، وعلق ذلك على بهذا الشرط، وإن كان الإيمان حاصلا لهن إيعادا وتعظيما للكتم، وهذا كقولهم: إن كنت مؤمنا فلا تظلم، وإن كنت حرا فانتصر. يجعل ما كان موجودا كالمعدوم، ويعلق عليه، وإن كان موجودا في نفس الأمر.
والمعنى: إن كن مؤمنات فلا يحل لهن الكتم، وأنت مؤمن فلا تظلم، وأنت حر فانتصر، وقيل: في الكلام محذوف: أي، إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان.
وقيل: إن، بمعنى: إذ، وهو ضعيف، وتضمن هذا الكلام الوعيد، فقال
(١٩٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 193 194 195 196 197 198 199 200 201 202 203 ... » »»