تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٠٩
العلم على تحريم أخذ مالها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها، قال ابن المنذر: روينا معنى ذلك عن ابن عباس، والشعبي، ومجاهد، وعطاء، والنخعي، وابن سيرين، والقاسم، وعروة، وحميد بن عبد الرحمن، وقتادة، والثوري، ومالك، وإسحاق، وأبي ثور.
وقال مالك، والشعبي، وغيرهما: إن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج، وتفاقم ما بنيهما، فالفدية جائزة للزوج. قال أبو محمد بن عطية: ومعنى ذلك أن يكون الزوج، لو ترك فساده لم يزل نشوزها هي، وأما إن انفرد الزوج بالفساد فلا أعلم أحدا يجيز له الفدية إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قبله، فخالعته، فهو جائز ماض، وهو آثم لا يحل ما صنع، ولا يرد ما أخذ، وبه قال أصحابه: أبو يوسف، ومحمد، وزفر؛ وقال مالك: يمضى الطلاق إذ ذاك، ويرد عليها مالها.
وقال الأوزاعي، في من خالع امرأته وهي مريضة: إن كانت ناشزة كان في ثلثها، أو غير ناشزة رد عليها وله عليها الرجعة، قال: ولو اجتمعا على فسخ النكاح قبل البناء منها، ولم يبن منها نشوز، لم أر بذلك بأسا.
وقال الحسن بن صالح، وعثمان البتي: إن كانت الإساءة من قبله فليس له أن يخلعها، أو من قبلها فله ذلك على ما تراضيا عليه.
وظاهر الآية أنه إذا لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على الفراق، وشذ بكر بن عبد الله المزني، فقال: لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجته شيئا خلعا، لا قليلا ولا كثيرا، قال: وهذه الآية منسوخة بقوله: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) * الآية، وضعف قوله باجماع الأمة على إجازة الفدية، وبأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال.
واختلفوا: هل يندرج تحت عموم قوله: * (فيما افتدت به) * الضرر، والمجهول، كالتمر الذي لم يبد صلاحه، والجمل الشارد، والعبد الآبق، والجنين في البطن، وما يثمره نخلها، وما تلده غنمها وإرضاع ولدها منه؟ وكل هذا وما فرعوا عليه مذكور في كتب الفقه. قالوا: وظاهر قوله: * (فيما افتدت به) * أن الخلع فسخ إذا لم ينوبه الطلاق، لقوله بعد * (فإن طلقها) * وأجمعوا على أن هذه هي الثالثة، فلو كان الخلع قبلها طلاقا لكانت رابعة، وهو خلاف الإجماع قاله ابن عباس، وطاووس، وعكرمة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وروي عن علي، وعثمان، وابن مسعود، وجماعة من التابعين: أنه طلاق، وبه قال الجمهور: مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي.
ولا يدل ظاهرها على أن الخلع فسخ كما ذكروا، لأن الآية إنما جيء بها لبيان أحكام الخلع من غير تعرض له، أهو فسخ أم طلاق؟ فلو نوى تطليقتين أو ثلاثا فقال مالك: هو ما نوى، وقال أبو حنيفة: إن نوى ثلاثا فثلاثا أو اثنتين فواحدة بائنة.
* (تلك حدود الله فلا تعتدوها) * إشارة إلى الآيات التي تقدمت من قوله: * (ولا تنكحوا المشركات) * إلى هنا، وإبراز الحدود بالاسم الظاهر، لا بالضمير، دليل على التعظيم لحدود الله تعالى: وفي تكرار الإضافة تخصيص لها وتشريف، ويحسن التكرار بالظاهر كون ذلك في جمل مختلفة.
و: تلك، مبتدأ، أو: حدود الله، الخبر. ومعنى: فلا تعتدوها، أي: لا تجاوزوها إلى ما لم يأمركم به.
* (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) * لما نهى عن اعتداء الحدود، وهو تجاوزها، وكان ذلك خطابا لمن سبق له الخطاب قبل ذلك، أتى بهذه الجملة الشرطية العامة الشاملة لكل فرد فرد ممن يتعدى الحدو، وحكم عليهم أنهم الظالمون، والظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، فشمل بذلك المخاطبين.
قيل: وغيرهم، و: من، شرطية، والفاء في: فأولئك، جواب الشرط، و: حمل، يتعد على اللفظ، فأفرد، و: أولئك، على المعنى. فجمع وأكد بقوله: هم، وأتى في قوله: الظالمون، بالألف واللام التي تفيد الحصر، أو المبالغة في الوصف، ويحتمل: هم، أن تكون فصلا مبتدأ وبدلا.
(٢٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 ... » »»