تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١١٤
يقتضي أن من دخل الجنة، ولو آخر الناس، صدق عليه أنه: أوتي في الآخرة حسنة، قد دعوا الله تعالى أن يكونوا مع دخول الجنة يقيهم عذاب النار، فكأنه دعاء بدخول الجنة أولا دون عذاب، وأنهم لا يكونون ممن يدخل النار بمعاصيهم ويخرجون منا بالشفاعة. ويحتمل أن يكون مؤكدا لطلب دخول الجنة، كما قال بعض الصحابة.
إنما أقول في دعائي: اللهم أدخلني الجنة، وعافني من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (حولها ندندن).
* (أولئك لهم نصيب مما كسبوا) * تقدم انقسام الناس إلى فريقين: فريق اقتصر في سؤآله على دنياه، وفريق أشرك في دنياه أخراه، فالظاهر أن: أولئك، إشارة إلى الفريقين، إذ المحكوم به، وهو كون: نصيب لهم مما كسبوا، مشترك بينهما، والمعنى: أن كل فريق له نصيب مما كسب، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ولا يكون الكسب هنا الدعاء، بل هذا مجرد إخبار من الله بما يؤول إليه أمر كل واحد من الفريقين، وأن انصباءهم من الخير والشر تابعة لاكسابهم.
وقيل: المراد بالكسب هنا الدعاء، أي: لكل واحد منهم نصيب مما دعا به. وسمي الدعاء كسبا لأنه عمل، فيكون ذلك ضمانا للإجابة وعدا منه تعالى أنه يعطي كلا منه نصيبا مما اقتضاه دعاؤه، إما الدنيا فقط، وإما الدنيا والآخرة، فيكون كقوله: * (من كان يريد حرث الاخرة) * * (ومن كان يريد العاجلة) * و * (من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها) * الآيات.
وكما جاء في الصحيح: وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله بها، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها. وفي المعنى الأول لا يكون فيه وعد بالإجابة.
و: من، في قوله: مما كسبوا، يحتمل أن تكون للتبعيض، أي: نصيب من جنس ما كسبوا، ويحتمل أن يكون للسبب، و: ما، يحتمل أن تكون موصولة لمعنى الذي أو موصولة مصدرية أي: من كسبهم، وقيل: أولئك، مختص بالإشارة إلى طالبي الحسنتين فقط، ولم يذكر ابن عطية غيره. وذكره الزمخشري بإزائه.
قال ابن عطية: وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد، وقال الزمخشري: أولئك الداعون بالحسنتين لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الصالحة، وهو الثواب الذي هو منافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، كقوله: مما خطاياهم أغرقوا، ثم قال بعد كلام: ويجوز أن يكون أولئك الفريقين جميعا، وأن لكل فريق نصيبا من جنس ما كسبوا. انتهى كلامه.
والأظهر ما قدمناه من أن: أولئك، إشارة إلى الفريقين، ويؤيده قوله: * (والله سريع الحساب) * وهذا ليس مما يختص به فريق دون فريق، بل هذا بالنسبة لجميع الخلق، والحساب يعم محاسبة العالم كلهم، لا محاسبة هذا الفريق الطالب الحسنتين.
وروي عن ابن عباس: أن النصيب هنا مخصوص بمن حج عن ميت، يكون الثواب بينه وبين الميت، وروي عنه أيضا، في حديث الذي سأل هل يحج عن أبيه. وكان مات؟ وفي آخره، قال: فهل لي من أجر؟ فنزلت هذه الآية، قيل: وإذا صح هذا فتكون الآية منفصلة عن التي قبلها، معلقة بما قبله من ذكر الحج ومناسكه وأحكامه. انتهى. وليست كما ذكر منفصلة، بل هي متصلة بما قبلها، لأن ما قبلها هو في الحج، وأن انقسام الفريقين هو في الحج، فمنهم من كان يسأل الله الدنيا فقط، ومنهم من يسأل الدنيا والآخرة. وحصل الجواب للسائل عن حجه عن أبيه: أله فيه أجر؟ لعموم قوله: * (أولئك لهم نصيب مما كسبوا) * وقد أجاب ابن عباس بهذه الآية من سأله أن يكرى دابته ويشرط عليهم أن يحج، فهل يجزى عنه؟ وذلك لعموم قوله: * (أولئك لهم نصيب مما كسبوا) *.
* (والله سريع الحساب) * ظاهره الإخبار عنه تعالى بسرعة حسابه، وسرعته بانقضائه عجلا كقصد مدته، فروى: بقدر حلب شاة، وروي بمقدار فواق ناق، وروي بمقدار لمحة البصر. أو لكونه لا يحتاج إلى فكر، ولا رؤية كالمعاجز، قاله أبو سليمان. أو: لما علم ما
(١١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 ... » »»