تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١١٢
مذكورين، والذكر الذي هو تمييز بعد أشد هو من فعلهم، أي من فعل القوم المذكورين، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم، ومعنى قوله: من آبائكم أي: من ذكركم لآبائكم.
الثالث: أنه منصوب بإضمار فعل الكون. والكلام محمول على المعنى. التقدير: أو كونوا أشد ذكرا له منكم لأبائكم. ودل عليه أن معنى: فاذكروا الله؛ كونوا ذاكريه.
قال أبو البقاء: قال: وهذا أسهل من حمله على المجاز، يعنى في أن يجعل للذكر ذكر في قول أبي علي وابن جني.
وجوزوا الجر في أشد على وجهين. أحدهما: ان يكون معطوفا على: ذكركم، قاله الزجاج، وابن عطية، وغيرهما. فيكون التقدير: أو كذكر أشد ذكرا، فيكون إذ ذاك قد جعل للذكر ذكر.
الثاني: أن يكون معطوفا على الضمير المجرور بالمصدر في: كذكركم، قاله الزمخشري. قال ما نصه: أو أشد ذكرا في موضع جر، عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: كذكركم، كما تقول: كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا، وفي قول الزمخشري: العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيف، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكرا يماثل آبائهم أو أشد، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه، وهو أن يكون: أشد، منصوبا على الحال، وهو نعت لقوله: ذكرا لو تأخر، فلما تقدم انتصب على الحال، كقولهم.
لمية موحشا طلل فلو تأخر لكان: لمية طلل موحش، وكذلك لو تأخر هذا لكان: أو ذكرا أشد، يعنى: من ذكركم آباءكم، ويكون إذ ذاك: أو ذكرا أشد، معطوفا على محل الكاف من: كذكركم، ويجوز أن يكون ذكرا مصدرا، لقوله: فاذكروا كذكركم، في موضع الحال، لأنه في التقدير: نعت نكرة تقدم عليهما فانتصب على الحال، ويكون: أو أشد، معطوفا على محل الكاف حالا معطوفة على حال، ويصير كقوله: أضرب مثل ضرب فلان ضربا، التقدير ضربا مثل ضرب فلان، فلما تقدم انتصب على الحال، وحسن تأخره أنه كالفاصلة في جنس المقطع. ولو تقدم لكان: فاذكروا ذكرا كذكركم، فكان اللفظ يتكرر، وهم مما يجتنبون كثرة التكرار للفظ، فلهذا المعنى، ولحسن القطع، تأخر.
لا يقال في الوجه الأول: إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو: أو، وبين المعطوف الذي هو: ذكرا، بالحال الذي هو: أشد، وقد نصوا على أنه إذا جاز ذلك فشرطه أن يكون المفصول به قسما أو ظرفا أو مجرورا، وإن يكون حرف العطف على أزيد من حرف، وقد وجد هذا الشرط الآخر، وهو كون الحرف على أزيد من حرف، وفقد الشرط الأول، لأن المفصول به ليس بقسم ولا ظرف ولا مجرور، بل هو حال، لأن الحال هي مفعول فيها في المعنى، فهي شبيهة بالحرف، فيجوز فيها ما جاز في الظرف. وهذا أولى من جعل: ذكرا، تمييزا لأفعل التفضيل الذي هو وصف في المعنى، فيكون: للذكر ذكر بأن ينصبه على محل الكاف، أو يجره عطفا على ذكر المجرور بالكاف، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي: كونوا أشد، أو للذاكر الذكر، وبأن ينصبه عطفا على: أباءكم، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفا على المضاف إليه الذكر، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف، فينبغي أن ينزه القرآن عنها.
* (فمن الناس من يقول ربنا ءاتنا فى الدنيا) * قالوا: بين تعالى حال الذاكرين له قبل مبعثه، وحال المؤمنين بعد مبعثه، وعلمهم بالثواب والعقاب. والذي يظهر أن هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك، وأنهم ينقسمون في السؤال إلى من يغلب عليه حب الدنيا، فلا يدع إلا بها، ومنهم من يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة، وأن هذا من الالتفات. ولو جاء على الخطاب لكان: فمنكم من يقول: ومنكم. وحكمة هذا الالتفات أنهم ما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل، وهو الاقتصار على الدنيا، فأبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر الله بأن جعلوا في صورة الغائبين، وهذا من التقسيم
(١١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 ... » »»