تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١١٣
الذي هو من جملة ضروب البيان، وهو تقسيم بديع يحصره المقسم إلى هذين النوعين، لا على ما يذهب إليه الصوفية من أن ثم قسما ثالثا لم يذكر لهم تعالى، قالوا: وهم الراضون بقضائه، المستسلمون لامره، الساكتون عن كل دعاء، وافتشآء، ومفعول آتنا الثاني محذوف، تقديره: ما تريد، أو: مطلوبنا، أو ما أشبه.
هذا وجعل في زائدة، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط، وكذلك جعل في بمعنى: من، حتى يكون في موضع المفعول، وحذف مفعولي آتي، وأحدهما جائز اختصارا واقتصارا، لأن هذا باب: أعطى، وذلك جائز فيه.
* (له فى الاخرة من خلاق) * تقدم تفسير هذا في قوله: * (ولقد علموا لمن اشتراه * ماله * فى الاخرة من خلاق) * واحتملت هذه الجملة هنا معنيين: أحدهما: الأخبار بأنه لا نصيب له في الآخرة لاقتصاره على الدنيا. والثاني: أن يكون المعنى إخبارا عن الداعي بأنه ما له في الآخرة من طلب نصيب، فيكون هذا كالتوكيد لاقتصاره على طلب الدنيا، وجمع في قوله: * (ربنا ءاتنا فى الدنيا) * ولو جرى على لفظ من، لكان: رب آتني. وروعي الجمع هنا لكثرة من يرغب في الاقتصار على مطالب الدنيا ونيلها، ولو أفرد لتوهم أن ذلك قليل.
* (ومنهم من يقول ربنا ءاتنا فى الدنيا حسنة) * الحسنة: مطلقة، والمعنى: أنهم سألوا الله في الدنيا الحالة الحسنة، وقد مثل المفسرون ذلك بأنها المرأة الصالحة، قاله علي. أو: العافية في الصحة وكفاف المال، قاله قتادة. أو: العلم، أو العبادة، قاله الحسن. أو: المال، قاله السدي، وأبو وائل، وابن زيد. أو: الرزق الواسع، قاله مقاتل. أو: النعمة في الدنيا، قاله: ابن قتيبة، أو القناعة بالرزق، أو: التوفيق والعصمة، أو: الأولاد الأبرار، أو: الثبات على الإيمان، أو: حلاوة الطاعة، أو: اتباع السنة، أو: ثناء الخلق، أو: الصحة والأمن والكفاءة والنصرة على الأعداء، أو: الفهم في كتاب الله تعالى. أو: صحبة الصالحين، قاله جعفر. وعن الصوفية في ذلك مثل كثيرة.
* (وفي الاخرة حسنة) * مثلوا حسنة الآخرة بأنها الجنة، أو العفو والمغفرة والسلامة من هول الموقف وسوء الحساب، أو النعمة، أو الحور العين، أو تيسير الحساب، أو مرافقة الأنبياء، أو لذة الرؤية، أو الرضا، أو اللقاء.
وقال ابن عطية: هي الحسنة بإجماع. قيل: وينبغي أن تكون الحسنتان هما العافية في الدنيا والآخرة لثبوت ذلك في حديث الذي زاره رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقد صار مثل الفرخ، وإنه سأله عما كان يدعو به، فأخبره أنه سأل الله في الدنيا تعجيل ما يعاقبه به في الآخرة، وأنه قال له: (لا تستطيعه) وقال: (هلا قلت اللهم آتنا في الدنيا...) إلى آخره. فدعا بهما الله تعالى فشفاه.
وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أكثر ما كان يدعو به، وكان يقول ذلك فيما بين الركن والحجر الأسود، وكان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقوف.
وأبو بكر أول من قالها في الموسم عام الفتح، ثم اتبعه علي، والناس أجمعون؛ وأنس سئل الدعاء فدعا بها، ثم سئل الزيادة فأعادها، ثم سئل الزيادة فقال: ما تريدون؟ قد سألت الله خير الدنيا والآخرة.
وفي الآخرة حسنة: الواو فيها لعطف شيئين على شيئين، فعطفت: في الأخرة حسنة، على: الدنيا حسنة، والحرف قد يعطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر، تقول: أعلمت زيدا أخاك منطلقا وعمرا أباه مقيما، إلا إن ناب عن عاملين ففيه خلاف، وفي الجواز تفصيل. وليس هذا من الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والمجرور كما ظن بعضهم، فأجاز ذلك مستدلا به على ضعف مذهب الفارسي في أن ذلك مخصوص بالشعر، لأن الآية ليست من هذا الباب، بل من عطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر، وإنما الذي وقع فيه خلاف أبي علي هو: ضربت زيدا وفي الدار عمرا، وإنما يستدل على ضعف مذهب أبي علي بقوله: * (الله الذى خلق سبع * سماوات * ومن الارض مثلهن) * وبقوله: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الاحمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) * وتمام الكلام على هذه المسألة مذكور في علم النحو.
* (وقنا عذاب النار) * هو سؤال بالوقاية من النار، وهو: أن لا يدخلوها، وهي نار جهنم، وقيل: المرأة السوء الكثيرة الشر.
وقال القيثري: واللام في النار لام الجنس، فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة انتهى.
وظاهر هذا الدعاء أنه لما كان قولهم: وفي الآخرة حسنة،
(١١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 ... » »»