تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٠٩
* فأنت الناس إذ فيك الذي قد * حواه الناس من وصف جميل * ويؤيده قراءة ابن جبير: من حيث أفاض الناس، بالياء من قوله: * (ولقد عهدنا إلى * من ربه * قبل فنسى) * وإطلاق الناس على: واحد من الناس هو خلاف الأصل، وقد رجح هذا بأن قوله: * (من حيث أفاض الناس) * هو فعل ماض يدل على فاعل متقدم، والإفاضة إنما صدرت من آدم وإبراهيم، ولا يلزم هذا الترجيح، لأن: حيث، إذا أضيفت إلى جملة مصدرة بماض جاز أن يراد بالماضي حقيقته، كقوله تعالى: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) *. وتارة يراد به المستقبل، كقوله تعالى * (ومن حيث خرجت فول وجهك) * وهذا معروف في حيث، فلا يلزم ما ذكره.
وعلى تسليم أنه فعل ماض، وأنه يدل على فاعل متقدم لا يلزم من ذلك أن يكون فاعله واحدا لأنه قبل صدور هذا الأمر بالإضافة كان إما جميع من أفاض قبل تغيير قريش ذلك، وإما غير قريش ذلك، وإما غير قريش بعد تغييرهم من سائر من حج من العرب، فالأولى حمل الناس على جنس المفيضين العام، أو على جنسهم الخاص.
وقد رجح قول من قال بأنهم أهل اليمن وربيعة بحج أبي بكر بالناس، حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأمره أن يخرج بالناس إلى عرفات فيقف بها، فإذا غربت الشمس أفاض بالناس حتى يأتي بهم جميعا، فيبيت بها، فتوجه أبو بكر إلى عرفات، فمر بالحمس وهم وقوف بجمع، فلما ذهب ليجاوزهم قالت له الحمس: يا أبا بكر: أين تجاوزنا إلى غيرنا؟ هذا موقف آبائك فمضى أبو بكر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم) حتى أتى عرفات، وبها أهل اليمن وربيعة. وهذا تأويل قوله: * (من حيث أفاض الناس) * فوقف بها حتى غربت الشمس، ثم أفاض بالناس إلى المشعر الحرام، فوقف بها، فلما كان عند طلوع الشمس أفاض منه.
وقراءة ابن جبير: من حيث أفاض الناسي، بالياء، قراءة شاذة، وفيها تنبيه على أن الإفاضة من عرفات شرع قديم، وفيها تذكير يذكر عهد الله وأن لا ينسى، وقد ذكرنا أنه يؤول على أن المراد بالناسي آدم عليه السلام، ويحتمل أن يكون الناسي في قراءة سعيد معناه التارك، أي: للوقوف بمزدلفة، أو لا، ويكون يراد به الجنس، إذ الناسي يراد به التارك للشيء، فكأن المعنى، والله أعلم: أنهم أمروا بأن يفيضوا من الجهة التي يفيض منها من ترك الإفاضة من الزدلفة، وأفاض من عرفات، ويكون الناسي يراد به الجنس، فيكون موافقا من حيث المعنى لقراءة الجمهور، لأن الناس الذين أمرنا بالإفاضة من حيث أفاضوا، هم التاركون للوقوف بمزدلفة، والجاعلون الإفاضة من عرفات على سنن من سن الحج، وهو إبراهيم عليه السلام، بخلاف قريش، فإنهم جعلوا الإفاضة من المزدلفة، ولم يكونوا ليقفوا بعرفات فيفيضوا منها.
قال ابن عطية: ويجوز عند بعضهم حذف الياء، فيقول: الناس، كالقاض والهاد، قال: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما كون جوازه مقروءا به فلا أحفظه. انتهى كلامه.
فقوله: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، ظاهر كلام ابن عطية أن ذلك جائز مطلقا، ولم يجزه سيبويه إلا في الشعر، وأجازه الفراء في الكلام. وأما قوله: وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه، فكونه لا يحفظه قد حفظه غيره.
قال أبو العباس المهدوي: أفاض الناسي بسعيد بن جبير، وعنه أيضا: الناس بالكسر من غير ياء. انتهى قول أبي العباس المهدوي.
* (واستغفروا الله) * أمرهم بالاستغفار في مواطن مظنة القبول، وأماكن الرحمة، وهو طلب الغفران من الله باللسان مع التوبة بالقلب، إذ الاستغفار باللسان دون التوبة بالقلب غير نافع، وأمروا بالاستغفار، وإن كان فيهم من لم يذنب، كمن بلغ قبيل الإحرام ولم يقارف ذنبا وأحرم، فيكون الاستغفار من مثل هذا لأجل أنه ربما صدر منه تقصير في أداء الواجبات والاحتراز من المحظورات، وظاهر هذا الأمر أنه ليس طلب غفران من ذنب خاص، بل طلب غفران الذنوب، وقيل: إنه أمر بطلب غفران خاص، والتقدير: واستغفروا الله مما كان من مخالفتكم في الوقوف والإفاضة، فإنه غفور لكم، رحيم فيما فرطتم فيه في حلكم وإحرامكم، وفي سفركم ومقامكم. وفي الأمر بالاستغفار عقب الإفاضة، أو معها، دليل على أن ذلك الوقت، وذلك المكان المفاض منه، والمذهوب إليه من أزمان الإجابة وأماكنها، والرحمة والمغفرة.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم) خطب عشية عرفة فقال: (أيها الناس إن الله تعالى تطاول
(١٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 ... » »»