تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٠٣
والراحلة). انتهى كلامه.
ورد عليه بأن الكاملين في باب التوكل لا يطعن عليهم إن سافروا بغير زاد، لأنه صح: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا، وتروح بطانا. وقال تعالى: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * وقد طوى قوم الأيام بلا غذاء، وبعضهم اكتفى باليسير من القوت في الأيام ذوات الأعداد، وبعضهم بالجرع من الماء.
وصح من حديث أبي ذر اكتفاؤه بماء زمزم شهرا، وخرج منها وله عكن، وأن جماعة من الصحابة اكتفوا أياما كثيرة، كل واحد منهم بتمرة في اليوم.
فأما خرق العادات من دوران الرحى بالطحين، وامتلاء الفرن بالعجين، وإن لم يكن هناك طعام، ونحو ذلك، فحكوا وقوع ذلك. وقد شرب سفيان بن عيينة فضلة سفيان الثوري من ماء زمزم فوجدها سويقا، وقد صح وثبت خرق العوائد لغير الأنبياء عليهم السلام، فلا يتكرر ذلك إلا من مدع ذلك، وليس هو على طريق الاستقامة ككثير ممن شاهدناهم يدعون، ويدعى ذلك لهم.
* (واتقون) * هذا أمر بخوف الله تعالى، ولما تقدم ما يدل على اجتناب أشياء في الحج، وأمروا بالتزود للمعاد، وأخبر بالتقوى عن خير الزاد، ناسب ذلك كله الأمر بالتقوى، والتحذير من ارتكاب ما تحل به عقوبته، ثم قال * (واتقون يأولي الالباب) * تحريكا لامتثال الأمر بالتقوى، لأنه لا يحذر العواقب، إلا من كان ذا لب، فهو الذي تقوم عليه حجة الله، وهو القابل للأمر والنهي، وإذا كان ذو اللب لا يتقي الله، فكأنه لا لب له، وقد تقدم الكلام على مثل هذا النداء في قوله: * (ولكم في القصاص حيواة يأولي * أولى * الالباب) * فأغنى عن إعادته.
والظاهر من اللب أنه لب مناط التكليف، فيكون عاما، لا اللب الذي هو مكتسب بالتجارب، فيكون خاصا، لأن المأمور باتقاء الله هم جميع المكلفين.
* (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) * سبب نزولها أن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية. كعكاظ، وذي المجاز، ومجنة، فأباح الله لهم ذلك، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وعطاء؛ وقال مجاهد أيضا: كان بعض العرب لا ينحرون مذ يحرون، فنزلت في إباحة ذلك، وروي عن ابن عمر أنها نزلت فيمن يكري في الحج، وأن حجة تام.
وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير: فضلا من ربكم في مواسم الحج، والأولى جعل هذا تفسيرا، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه الأمة.
والجناح معناه: الدرك، وهو أعم من الإثم، لأنه فيما يقتضي العقاب، وفيما يقتضي الزجر والعقاب، وعنى بالفضل هنا الأرباح التي تكون سبب التجارة، وكذلك ما تحصل عن الأجر بالكراء في الحج، وقد انعقد الإجماع على جواز التجارة والاكتساب بالكل، والإتجار إذا أتى بالحج على وجهه إلا ما نقل شاذا عن سعيد بن جبير، وأنه سأله أعرابي أن أكري إبلي، وأنا أريد الحج أفيجزيني؟ قال: (لا، ولا كرامة). وهذا مخالف لظاهر الكتاب والإجماع فلا يعول عليه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما نهى عن الجدال، والتجارة قد تفضي إلى المنازعة، ناسب أن يتوقف فيها لأن ما أفضى إلى المنهي عنه منهي عنه، أو لأن التجارة كانت محرمة عند أهل الجاهلية وقت الحج، إذ من يشتغل بالعبادة يناسبه أن لا يشغل نفسه بالأكساب الدنيوية، أو لأنا لمسلمين لما صار كثير من المباحات محرما عليهم في الحج، كانوا بصدد أن تكون التجارة من هذا القبيل عندهم، فأباح الله ذلك، وأخبرهم أنه لا درك عليهم فيه في أيام الحج. ويؤيد ذلك قراءة من قرأ: في مواسم الحج.
وحمل أبو مسلم الآية على أنه: فيما بعد الحج، ونظيره: * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الارض وابتغوا من فضل الله) * فقاس: الحج، على: الصلاة، وضعف قوله بدخول الفاء في: فإذا قضيتم، وهذا فصل بعد ابتغاء الفضل، فدل على أن ما قبل الإفاضة، وقع في زمان الحج. ولأن محل شبهة الامتناع هو التجارة في زمان الحج، لا بعد الفراغ منه، لأن كل أحد يعلم جل التجارة إذ ذاك، فحمله على محل الشبهة أولى،
(١٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 ... » »»