تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٠٦
ومزدلفة كلها موقف، إلا وادي محسر، وجعلت كلها موقفا لكونها في حكم المشعر، ومتصلة به، وقيل: سميت المزدلفة وما تضمنه الحد الذي ذكر مشعرا، ووحد لاستوائه في الحكم، فكان كالمكان الواحد.
وقال في (المنتخب): هذا الأمر يدل على أن الحصول عند المشعر الحرام واجب، ويكفي فيه المرور كما في عرفة، فأما الوقوف هناك فمسنون. انتهى كلامه.
وكون الوقوف مسنونا هو قول جمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: هو واجب، فمن تركه من غير عذر فعليه دم، فإن كان له عذر أو خاف الزحام فلا بأس أن يعجل بليل. ولا شيء عليه.
وقال ابن الزبير، والحسن، وعلقمة، والشعبي، والنخعي، والأوزاعي. الوقوف بمزدلفة فرض، ومن فاته فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة.
والآية لا تدل إلا على مطلوبية الذكر عند المشعر الحرام، لا على الوقوف، ولا على المبيت بمزدلفة، وأجمعوا على أن المبيت ليس بركن. وقال مالك: من لم يبت بها فعليه دم، وإن أقام بها أكثر ليلة فلا شيء عليه، لأن المبيت بها سنة مؤكدة، عند مالك. وهو مذهب عطاء، وقتادة، والزهري، والثوري، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
وقال الشافعي: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، أو قبله افتدى، والفدية شاة.
ومطلق الأمر بالذكر لا يدل على ذكر مخصوص. قال بعضهم: وأولى الذكر أن يقول: اللهم كما وفقتنا فيه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق * (فإذا أفضتم) * ويتلو إلى قوله: * (إن الله غفور رحيم) * ثم بعد ذلك يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة.
والذي يظهر أن ذكر الله هنا هو الثناء عليه، والحمد له، ولا يراد بذكر الله هنا ذكر لفظة الله، وإنما المعنى: اذكروا الله بالألفاظ الدالة على تعظيمه، والثناء عليه، والمحمدة له. وعند منصوب باذكروا، وهذا مما يدل على أن جواب: إذا، لا يكون عاملا فيها، لأن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر، لأن ذلك عرفات، وهذا المشعر الحرام، وإذا اختلف المكانان لزم من ذلك ضرورة اختلاف الزمانين، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعا وقت إنشاء الإفاضة.
* (واذكروه كما هداكم) * هذا الأمر الثاني هو الأول، وكرر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر، لأن الذكر من أفضل العبادات، أو غير الأول، فيراد به تعلقه بتوحيد الله، أي: واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته، أو اتصال الذكر لمعنى: اذكروه ذكرا بعد ذكر، قال هذا القول محمد بن قاسم النحوي: أو الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع، ويراد بالأول صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة، حكاه القاضي أبو يعلى.
والكاف في: كما، للتشبيه، وهي في موضع نصب إما على النعت لمصدر محذوف، وإما على الحال. وقد تقدم هذا البحث في غير موضع.
والمعنى: أوجدوا الذكر على أحسن أحواله من مماثلته لهداية الله لكم، هذه هدايته إياكم أحسن ما أسدي إليكم من النعم، فليكن الذكر من الحضور والديمومة في الغاية حتى تماثل إحسان الهداية، ولهذا المعنى قال الزمخشري: أذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هدية حسنة. انتهى.
ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل على مذهب من أثبت هذا المعنى للكاف، فيكون التقدير: كما هداكم، أي: أذكروه وعظموه للهداية السابقة منه تعالى لكم، وحكى سيبويه: كما أنه لا يعلم، فتجاوز الله عنه، أي: لأنه لا يعلم، وثبت لها هذا المعنى الأخف 5، وابن برهان. وما، في: كما، مصدرية أي: كهدايته إياكم، وجوز الزمخشري، وابن عطية أن تكون: ما، كافة للكاف عن العمل، والفرق بينهما أن: ما، المصدرية تكون هي وما بعدها في موضع جر، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر، والكاف لا يكون ذلك فيها إذ لا عمل لها البتة، والأولى حملها على أن: ما، مصدرية لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر، وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بما عن العمل أبو سعد، وعلي بن مسعود بن الفر خال صاحب (المستوفي) واحتج من أثبت ذلك بقول الشاعر:
(١٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 ... » »»