تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٠٤
ولأن قياس الحج على الصلاة، قياس فاسد، لاتصال أعمال الصلاة بعضها ببعض، وافتراق أعمال الحج بعضها من بعض، ففي خلالها يبقى الحج على الحكم الأول، حيث لم يكن حاجا، لا يقال: حكم الحج مستحب عليه في تلك الأوقات، بدليل حرمة الطيب واللبس ونحوهما، لأنه قياس في مقابلة النص، فهو ساقط. ونسب للياه فزان.
الفضل هنا هو ما يعمل الإنسان مما يرجو به فضل الله ورحمته، من إعانة ضعيف، وإغاثة ملهوف، وإطعام جائع؛ واعترضه القاضي بأن هذه الأشياء واجبة أو مندوب إليها، فلا يقال فيها: لا جناح عليكم، إنما يقال: في المباحات والتجارة إن أوقعت نقصا في الطاعة: لم تكن مباحة، وإن لم توقع نقصا فالأولى تركها، فهي إذا جارية مجرى الرخص.
وتقدم إعراب مثل: أن تبتغوا، في قوله: * (فلا جناح عليه أن يطوف * فيهما) * و: من وبكم، متعلق: بتبتغوا، و: من، لابتداء الغاية، أو بمحذوف، وتكون صفة لفضل. فتكون: من، لابتداء الغاية أيضا، أو للتبعيض، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي: من فضول.
* (فإذا أفضتم من عرفات) * قيل: فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة، لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده. انتهى هذا القول، ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب، إنما يعلم منه الحصول في عرفة، والوقوف بها، فهل ذلك على سبيل الوجوب أوا لندب؟ لا دليل في الآية على ذلك، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك.
وقال في (المنتخب): الإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب، فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج، فإذا لم يأت به لم يكن إيتاء بالحج المأمور به، فوجب أن لا يخرج عن العهدة، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطا. انتهى كلامه.
فقوله: الإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات، كلام مبهم، فإن عنى مشروط وجودها، أي: وجود الإفاضة بالحصول في عرفات، فصحيح، والوجود لا يدل على الوجوب، وإن عنى مشروط وجوبها بالحصول في عرفات فلا نسلم ذلك، بل نقول: لو وقف بعرف واتخذها مسكنا إلى أن مات لم تجب عليه الإفاضة منها، ولم يكن مفرطا في واجب إذا مات بها، وحجة تام إذا كان قد أتى بالأركان كلها.
وقوله: وما لا يتم الواجب، إلى آخر الجملة، مرتبة على أن الإفاضة واجبة، وقد منعنا ذلك وقوله: فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج، مبني على ما قبله، وقد بينا أنه لا يلزم ذلك، و: إذا، لا تدل على تعين زمان، بل تدل على تيقن الوجود أو رجحانه، فظاهره يقتضي أنه: متى أفاض من عرفات جاز له ذلك، واقتضى ذلك أن الوقوف بعرفة الذي تعتقبه الإفاضة كان مجزيا.
ووقت الوقوف من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر بلا خلاف، وأجمعوا على أن من وقف بالليل فحجه تام، ولو أفاض قبل الغروب، وكان وقف بعد الزوال، فأجمعوا على أن حجة تام، إلا مالكا فقال: يبطل حجه.
وروي نحوه عن الزبير، وقال مالك: ويحج من قابل وعليه هدي ينحره في حجه القابل.
ومن قال: حجه تام، فقال الحسن: عليه هدي، وقال ابن جريج: بدنة، وقال عطاء، والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور: عليه دم.
ولو أفاضل قبل الغروب ثم عاد إلى عرفة، فدفع بعد الغروب، فذهب أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور، إلى أنه لا يسقط الدم. وذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وداود الطبري إلى أنه لا شيء عليه. وحديث عروة بن مضرس: وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه، وقضى تفثه، موافق لظاهر الآية في عدم اشتراط جزء منالليل إلا ما صد عنه الإجماع من أن الوقوف قبل الزوال لا يجزئ، وأن من أفاض نهارا لا شيء عليه.
ومن، في قوله: من عرفات، لابتداء الغاية، وهي تتعلق: بأفضتم، وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات، فمن أي نواحيها أفاض أجزأه، ويقتضي ذلك جواز الوقوف، بأي نواحيها وقف، والجمهور على أن عرنة من عرفات. وحكى الباجي، عن ابن حبيب: أن عرنة في الحل، وعرنة في الحرم، وقيل: الجدار الغربي من مسجد عرنة لو سقط سقط في بطن عرنة، ومن قال: بطن عرنة من عرفات، فلو
(١٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 ... » »»