تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٩٥
الخلاف بين قول من جعل الأشهر هي الثلاثة بكمالها، وبين من جعلها شهرين وبعض الثالث، يظهر في تعلق الدم فيما يقع من الأعمال يوم النحر، فعلى القول الأول لا يلزمه دم لأنها وقعت في أشهر الحج، وعلى الثاني يلزمه، لأنه قد انقضى الحج بيوم النحر، وأخر عمل ذلك عن وقته.
وفائدة التوقيت بالأشهر أن شيئا من أفعال الحج لا يصح إلا فيها، ويكره الإحرام بالحج في غيرها عند أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وبه قال النخعي. قال: ولا يحل حتى يقضي حجه.
وقال عطاء، ومجاهد، والأوزاعي، والشافعي، وأبو الثور: لا يصح، وينقلب عمرة ويحل لها. وقال ابن عباس: من سنة الحج الإحرام به.
وسبب الخلاف اختلافهم في المحذوف في قوله: * (الحج أشهر معلومات) * هل التقدير: الإحرام بالحج أو أفعال الحج؟ وذكر الحج في هذه الأشهر لا يدل على أن العمرة لا تقع، وما روي عن عمر وابنه عبد الله أن العمرة لا تستحب فيها، فكأن هذه الإشهر مخلصة للحج.
وروي أن عمر كان يخفق الناس بالدرة، وينهاهم عن الاعتمار فيهن، وعن ابن عمر أنه قال لرجل: إن أطلقني انتظرت، حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.
ومعنى: معلومات، معروفات عند الناس، وأن مشروعية الحج فيها إنما جاءت على ما عرفوه وكان مقررا عندهم.
* (فمن فرض فيهن الحج) * أي: من ألزم نفسه الحج فيهن، وأصل الفرض الحز الذي يكون في السهام والقسي وغيرها، ومنه فرضة النهر والجبل، والمراد بهذا الفرض ما يصير به المحرم محرما، قال ابن مسعود: وهو الإهلال بالحج والإحرام، وقال عطاء، وطاووس: هو أن يلبي، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين رحمهم الله، وهي رواية شريك عن ابن عباس: إن فرض الحج بالتلبية.
وروي عن عائشة: لا إحرام إلا لمن أهل ولبى، وأخذ به أبو حنيفة وأصحابه، وابن حبيب، وقالوا، هم وأهل الظاهر: إنها ركن من أركان الحج.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قلد بدنته وساقها يريد الإحرام. فقد أحرم، قول هذا على أن مذهبه وجوب التلبية، أو ما قام مقامها من الدم، وروي عن ابن عمر: إذا قلد بدنته وساقها فقد أحرم، وروي عن علي، وقيس بن سعد، وابن عباس، وطاووس، وعطاء، ومجاهد، والشعبي، وابن سيرين، وجابر بن زيد، وابن جبير: أنه لا يكون محرما بذلك، وقال ابن عباس، وقتادة، والحسن: فرض الحج الإحرام به، وبه قال الشافعي.
وهذه الأقوال كلها مع اشتراط النية. وملخص ذلك أنه يكون محرما بالنية، والإحرام عند مالك، والشافعي، وبالنية والتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة، أو النية وإشعار الهدي أو تقليده عند جماعة من العلماء.
و: من، شرطية أو موصولة، و: فيهن، متعلق بفرض، والضمير عائد على: أشهر، ولم يقل: فيها، لأن أشهرا جمع قلة، وهو جار على الكثير المستعمل من أن جمع القلة لما لا يعقل يجرى مجرى الجمع مطلقا للعاقلات على الكثير المستعمل أيضا، وقال قوم: هما سواء في الاستعمال.
* (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * الرفث هنا قال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، والزهري، والسدي: هو الجماع؛ وقال ابن عمر، وطاووس، وعطاء، وغيرهم: هو الإفحاش للمرأة بالكلام، كقوله: إذا أحللنا فعلنا بك كذا، الايكني، وقال قوم: الإفحاش بذكر النساء، كان ذلك بحضرتهن أم لا؛ وقال قوم: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من أهله، وقال أبو عبيدة: هو اللغو من الكلام، وقال ابن الزبير: هو التعرض بمعانقة ومواعدة أو مداعبة أو غمز.
وملخص هذه الأقوال أنها دائرة بين شيء يفسده وهو الجماع، أو شيء لا يليق لمن كان ملتبسا بالحج لحرمة الحج.
والفسوق: فسر هذا بفعل ما نهى عنه في الإحرام من قتل صيد، وحلق شعر، والمعاصي كلها لا يختص منها شيء
(٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 ... » »»