تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٦٤٢
ويرده عند زوال الحاجة، أو سوقه بواسطة تحريك الريح إلى حيث أراد الله تعالى. وفي كل واحد من هذه الأوجه استدلال على الوحدانية.
* (بين السماء والارض) *: انتصاب بين على الظرف، والعامل فيه المسخر، أي سخر بين كذا وكذا، أو محذوف تقديره كائنا بين، فيكون حالا من الضمير المستكن في المسخر. * (لآيات لقوم يعقلون) *: دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها، إذ لو كان يليها، ما جاز دخولها، وهي لام التوكيد، فصار في الجملة حرفا تأكيد: إن واللام. ولقوم: في موضع الصفة، أي كائنة لقوم. والجملة صفة لقوم، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلا، فإنه يشاهد من هذه الآية ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وانفراده بالإلهية، وعظيم قدرته، وباهر حكمته. وقد أثر في الأثر: ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها، أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد، وأنه منفرد بالإلهية، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار. ثم مع كونها دلائل، بل هي نعم من الله على عباده، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر. لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكنا من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب، وهذه الأشياء التي ذكرها الله ثمانية، وإن جعلنا: وبث فيها، على حذف موصول، كما قدرناه في أحد التخريجين، كانت تسعة، وهي باعتبار تصير إلى أربعة: خلق، واختلاف، وإنزال ماء، وتصريف.
فبدأ أولا بالخلق، لأنه الآية العظمى والدلالة الكبرى على الإلهية، إذ ذلك إبراز واختراع لموجود من العدم الصرف. * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *؟ * (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *. ودليل الخلق على جميع الصفات الذاتية، من واجبية الوجود والوحدة والحياة والعلم والقدرة والإرادة، وقدم السماوات على الأرض لعظم خلقها، أو لسبقه على خلق الأرض عند من يرى ذلك.
ثم أعقب ذكر خلق السماوات والأرض باختلاف الليل والنهار، وهو أمر ناشىء عن بعض الجواهر العلوية النيرة التي تضمنتها السماوات. ثم أعقب ذلك بذكر الفلك، وهو معطوف على الليل والنهار، كأنه قال واختلاف الفلك، أي ذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية، وهو أمر ناشىء عن بعض الأجرام السفلية الجامدة التي تضمنتها الأرض.
ثم أعقب ذلك بأمور اشترك فيها العالم العلوي والعالم السفلي، وهو إنزال الماء من السماء، ونشر ما كان دفينا في الأرض بالأحياء. وجاء هذا المشترك مقدما فيه السبب على المسبب، فلذلك أعقب بالفاء التي تدل على السبب عند بعضهم.
ثم ختم ذلك بما لا يتم ما تقدمه من ذكر جريان الفلك وإنزال الماء وإحياء الموات إلا به، وهو تصريف الرياح والسحاب. وقدم الرياح على السحاب، لتقدم ذكر الفلك، وتأخر السحاب لتأخر إنزال الماء في الذكر على جريان الفلك.
فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر، حيث بدأ أولا باختراع السماوات والأرض، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي، ثم أتى ثالثا بذكر ما نشأ عن العالم السفلي، ثم أتى بالمشترك. ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به، وهو التصريف المشروح.
وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين: قسم مدرك بالبصائر، وقسم مدرك بالأبصار. فخلق السماوات والأرض مدرك بالعقول، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار. والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود، مستدل عليه بالعقول، فلذلك قال تعالى: * (لآيات لقوم يعقلون) *، ولم يقل: لآيات لقوم يبصرون، تغليبا لحكم العقل، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى.
* (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) *: لما قرر تعالى التوحيد بالدلائل الباهرة، أعقب ذلك بذكر من لم يوفق. واتخاذه الأنداد من دون الله، ليظهر تفاوت ما بين المنهجين. والضد يظهر حسنه الضد، وأنه مع وضوح هذه الآيات، لم يشاهد هذا الضال شيئا منها. ولفظ الناس عام، والأحسن حمله على الطائفتين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان. فالأنداد، باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم، اتبعوا ما رتبوه لهم من أمر ونهي، وإن خالف أمر الله ونهيه. قال تعالى: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) *. والأنداد، باعتبار عبادة الأوثان هي الأصنام، اتخذوها آلهة وعبدوها من دون الله. وقيل: المراد بالناس الخصوص. فقيل: أهل الكتاب. وقيل:
(٦٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 637 638 639 640 641 642 643 644 645 646 647 ... » »»