تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٦٣٨
المطلق، ولذلك ساغ حذفه، كما ساغ بعد قولهم: لولا زيد لأكرمتك، إذ تقديره: لولا زيد موجود، لأنها جملة تعليقية، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا، إذا علم، كثر حذفه عند الحجازيين، ووجب حذفه عند التميميين. وإذا كان الخبر. كونا مطلقا، كان معلوما، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها، بخلاف الكون المقيد، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه، فلذلك لا يجوز حذفه نحو: لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد، إلا أن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم، فيجوز حذفه.
* (الرحمان الرحيم) *: ذكر هاتين الصفتين منبها بهما على استحقاق العبادة له، لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشرا سويا عاقلا وتربية في دار الدنيا موعودا الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة، جدير بعبادتك له والوقوف عند أمره ونهيه، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته. وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب، ذكرت آية رحمة، وإذا ذكرت آية رحمة، ذكرت آية عذاب. وتقدم شرح هاتين الصفتين، فأغنى عن إعادته. ويجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو، وعلى إضمار مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الرحيم، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر لقوله: وإلهكم، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار: إله واحد خبر، ولا إله إلا هو خبر ثان، والرحمن الرحيم خبر ثالث. ولا يجوز أن يكون خبرا لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة، بخلاف قولك: ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد. قالوا: ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو، لأن المضمر لا يوصف. انتهى. وهو جائز على مذهب الكسائي، إذا كانت الصفة للمدح، وكان الضمير الغائب. وأهمل ابن مالك القيد الأول، فأطلق عن الكسائي أنه يجيز وصف الضمير الغائب. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إن هاتين الآيتين اسم الله الأعظم، وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم).
* (إن في خلق * السماوات والارض) *: روي أنه لما نزل * (وإلاهكم) * الآية، قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزل: * (إن في خلق) *. ولما تقدم وصفه تعالى بالوحدانية واختصاصه بالإلهية، استدل بهذا الخلق الغريب والبناء العجيب استدلالا بالأثر على المؤثر، وبالصنعة على الصانع، وعرفهم طريق النظر، وفيم ينظرون. فبدأ أولا بذكر العالم العلوي فقال: * (إن في خلق * السماوات) *. وخلقها: إيجادها واختراعها، أو خلقها وتركيب أجرامها وائتلاف أجزائها من قولهم: خلق فلان حسن: أي خلقته وشكله. وقيل: خلق هنا زائدة والتقدير: إن في السماوات والأرض، لأن الخلق إرادة تكوين الشيء. والآيات في المشاهد من السماوات والأرض، لا في الإرادة، وهذا ضعيف، لأن زيادة الأسماء لم تثبت في اللسان، ولأن الخلق ليس هو الإرادة، بل الخلق ناشىء عن الإرادة. قالوا: وجمع السماوات لأنها أجناس، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، ووحد الأرض لأنها كلها من تراب. وبدأ بذكر السماء لشرفها وعظم ما احتوت عليه من الأفلاك والأملاك والعرش والكرسي وغير ذلك، وآياتها: ارتفاعها من غير عمد تحتها، ولا علائق من فوقها، ثم ما فيها من النيرين، الشمس والقمر والنجوم السيارة والكواكب الزاهرة، شارقة وغاربة، نيرة وممحوة، وعظم أجرامها وارتفاعها، حتى قال أرباب الهيئة: إن الشمس قدر الأرض مائة وأربع وستين مرة، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض سبع مرات، وإن الأفلاك عظيمة الأجرام، قد ذكر أرباب علم الهيئة مقاديرها، وإنها سبعة أفلاك، يجمعها الفلك المحيط. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد). وصح أيضا.
أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفا، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة). وآية الأرض: بسطها، لا دعامة من تحتها ولا علائق من فوقها، وأنهارها ومياهها وجبالها ورواسيها وشجرها وسهلها ووعرها ومعادنها، واختصاص كل موضع منها بما هيىء له، ومنافع نباتها ومضارها. وذكر أرباب الهيئة أن الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة، وأن البحار محيطة بها، والهواء محيط بالماء، والنار محيطة بالهواء، والأفلاك وراء ذلك. وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه المعروف (بالدقائق) خلافا عن الناس المتقدمين: هل الأرض واقفة أم متحركة؟ وفي كل قول من
(٦٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 633 634 635 636 637 638 639 640 641 642 643 ... » »»