تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٦٣٧
شيء، أو الذي لا أبعاض له ولا أجزاء، أو المتوحد في استحقاق العبادة. أقوال أربعة أظهرها الأول. تقول: فلان واحد في عصره، أي لا نظير له ولا شبيه، وليس المعنى هنا بواحد مبدأ العدد.
* (لا إلاه إلا هو) *: توكيد لمعنى الوحدانية ونفي الإلهية عن غيره. وهي جملة جاءت لنفي كل فرد فرد من الآلهة، ثم حصر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى، فدلت الآية الأولى على نسبة الواحدية إليه تعالى، ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناص على ذلك، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك، لأن من ثبتت له الواحدية ثبتت له الإلهية. وتقدم الكلام على إعراب الاسم بعد لا في قوله: * (لا ريب فيه) *، والخبر محذوف، وهو بدل من اسم لا على الموضع، ولا يجوز أن يكون خبرا. كما جاز ذلك في قولك: زيد ما العالم إلا هو، لأن لا لا تعمل في المعارف، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد لا التي يبني الاسم معها هو مرفوع بها، وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعا بها، بل هو خبر المبتدأ الذي هو لا مع المبني معها، وهو مذهب سيبويه، فلا يجوز أيضا، لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة، والخبر معرفة، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي. وتقرير البدل فيه أيضا مشكل على قولهم: إنه بدل من إله، لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل، لا تقول: لا رجل إلا زيد. والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلا من إله ولا من رجل في قولك: لا رجل إلا زيد، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، فإذا قلنا: لا رجل إلا زيد، فالتقدير: لا رجل كائن أو موجود إلا زيد. كما تقول: ما أحد يقوم إلا زيد، فزيد بدل من الضمير في يقوم لا من أحد، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب، فليس بدلا على موضع اسم لا، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا. ولولا تصريح النحويين أنه يدل على الموضع من اسم لا، لتأولنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا، أي من الضمير العائد على اسم لا. قال بعضهم: وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل، قال: ولا يجوز فيه النصب هاهنا، لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني، والمعنى في الآية على ذلك، والنصب على أن الاعتماد على الأول. انتهى كلامه. ولا فرق في المعنى بين: ما قام القوم إلا زيد، وإلا زيدا، من حيث أن زيدا مستثنى من جهة المعنى. إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب، فأعربوا ما كان تابعا لما قبله بدلا، وأعربوا هذا منصوبا على الاستثناء، غير أن الاتباع أولى للمشاكلة اللفظية، والنصب جائز، ولا نعلم في ذلك خلافا.
وقال في المنتخب: لما قال تعالى: * (وإلاهكم إلاه واحد) *، أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فلا جرم. أزال ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال: لا إلاه إلا هو. فقوله: لا إلاه يقتضي النفي العام الشامل، فإذا قال بعده: إلا الله، أفاد التوحيد التام المطلق المحقق. ولا يجوز أن يكون في الكلام حذف، كما يقوله النحويون، والتقدير: لا إلاه لنا، أو في الوجود، إلا الله، لأن هذا غير مطابق للتوحيد الحق، لأنه إن كان المحذوف لنا، كان توحيدا لإلهنا لا توحيدا للإله المطلق، فحينئذ لا يبقى بين قوله: * (وإلاهكم إلاه واحد) *، وبين قوله: * (لا إلاه إلا هو * فرق) *، فيكون ذلك تكرارا محضا، وأنه غير جائز. وأما إن كان المحذوف في الوجود، كان هذا نفيا لوجود الإله الثاني. أما لو لم يضمر، كان نفيا لماهية الإله الثاني، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى، وإنما قدم النفي على الإثبات، لغرض إثبات التوحيد، ونفي الشركاء والأنداد. انتهى الكلام.
قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن): هذا كلام من لا يعرف لسان العرب. فإن لا إله في موضع المبتدأ، على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين، لا بد من خبر للمبتدأ، أو للا، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد. وأما قوله: إذا لم يضمر كان نفيا للماهية، قلنا: نفي الماهية هو نفي الوجود، لأن نفي الماهية لا يتصور عندنا إلا مع الوجود، فلا فرق عنده بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة، خلافا للمعتزلة، فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود، والدليل يأبى ذلك. انتهى كلامه، وما قاله من تقدير خبر لا بد منه، لأن قوله: لا إله، كلام، فمن حيث هو كلام، لا بد فيه من مسنده ومسند إله. فالمسند إليه هو إله، والمسند هو الكون
(٦٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 632 633 634 635 636 637 638 639 640 641 642 ... » »»