تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٦٠٩
وروي عن ابن عباس، واختاره الزجاج، ورجحه التبريزي، وبدأ به الزمخشري فقال: يعرفونه معرفة جلية، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص. قال الزمخشري وغيره: واللفظ للزمخشري، وجاز الإضمار، وإن لم يسبق له ذكر، لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علما معلوم بغير إعلام. انتهى. وأقول: ليس كما قالوه من أنه إضمار قبل الذكر: بل هذا من باب الالتفات، لأنه قال تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك) *، ثم قال: * (ولئن أتيت الذين) * إلى آخر الآية، فهذه كلها ضمائر خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم التفت عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وحكمة هذا الالتفات أنه لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب، أقبل على الناس فقال: * (الذين ءاتيناهم الكتاب) * واخترناهم لتحمل العلم والوحي، يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه، لا يشكون في معرفته، ولا في صدق أخباره، بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة، لما في كتابهم من ذكره ونعته، والنص عليه يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. فقد اتضح بما ذكرناه أنه ليس من باب الإضمار قبل الذكر، وأنه من باب الالتفات، وتبينت حكمة الالتفات. ويؤيد كون الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم) ما روي أن عمر سأل عبد الله بن سلام، رضي الله عنهما، وقال: إن الله قد أنزل على نبيه: * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه) * الآية، فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله: يا عمر، لقد عرفته حين رأيته، كما أعرف ابني، ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم) أشد من معرفتي بابني. فقال عمر: وكيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله حقا، وقد نعته الله في كتابنا، ولا أدري ما يصنع النساء. فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت، وقد روي هذا الأثر مختصرا بما يرادف بعض ألفاظه ويقاربها، وفيه: فقبل عمر رأسه. وإذا كان الضمير للرسول، فقيل: المراد معرفة الوجه وتميزه، لا معرفة حقيقة النسب. وقيل: المعنى يعرفون صدقه ونبوته. وقيل: الضمير عائد على الحق الذي هو التحول إلى الكعبة، قاله ابن عباس وقتادة أيضا، وابن جريج والربيع. وقيل: عائد على القرآن. وقيل: على العلم. وقيل: على كون البيت الحرام قبلة إبراهيم ومن قبله من الأنبياء، وهذه المعرفة مختصة بالعلماء، لأنه قال: * (الذين ءاتيناهم الكتاب) *، فإن تعلقت المعرفة بالنبي صلى الله عليه وسلم)، فيكون حصولها بالرؤية والوصف، أو بالقرآن، فحصلت من تصديق كتابهم للقرآن، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم) وصفته، أو بالقبلة، أو التحويل، فحصلت بخبر القرآن وخبر الرسول المؤيد بالخوارق.
* (كما يعرفون أبناءهم) *، الكاف: في موضع نصب، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفانا مثل عرفانهم. أبناءهم: أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف، كان التقدير: يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم. وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم)، حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى، ومعرفة متعلقها المحسوس. وظاهر الأبناء الاختصاص بالذكور، فيكونون قد خصوا بذلك، لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء، وألصق وأعلق بقلوب الآباء. ويحتمل أن يراد بالأبناء: الأولاد، فيكون ذلك من باب التغليب. وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس، لأن الإنسان قد يمر عليه برهة من الزمان لا يعرف فيها نفسه، بخلاف الأبناء، فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه.
* (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق) *: أي من الذين آتيناهم الكتاب، وهم المصرون على الكفر والعناد، من علماء اليهود النصارى، على أحسن
(٦٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 604 605 606 607 608 609 610 611 612 613 614 ... » »»