تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٧٧
العبد يوقع بإعانة، فهذا هو الكسب.
* (ولا تسئلون عما كانوا يعملون) *: جملة توكيدية لما قبلها، لأنه قد أخبر بأن كل أحد مختص بكسبه من خير، وإذا كان كذلك، فلا يسأل أحد عن عمل أحد. فكما أنه لا ينفعكم حسناتهم، فكذلك لا تسألون ولا تؤاخذون بسيئات من اكتسبها. * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *، كل شاة برجلها تناط. قالوا: وفي هذه الآية، وما قبلها، دليل على أن للإنسان أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله، إفحاما له، وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه، لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج على نبوته بأمثال هذه الكلمات، بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة. لكنه لما أقام الحجة بها وأزاح العلة، وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم. فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه، فقال: إن كان الدين بالاتباع، فالمتفق عليه أولى. وفي قوله: * (لها ما كسبت) * إلى آخره، دلالة على بطلان قول من يقول بجواز تعذيب أولاد المشركين بذنوب آبائهم. وفي الآية قبلها دلالة على أن الأبناء يثابون على طاعة الآباء.
* (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) *: الضمير عائد في قالوا على رؤساء اليهود الذين كانوا بالمدينة، وعلى نصارى نجران، وفيهم نزلت. كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب، وأبي بن ياس بن أخطب، والسيد، والعاقب وأصحابهما خاصموا المسلمين في الدين، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها، فأخبر الله عنهم ورد عليهم. وأو هنا للتفصيل، كأو في قوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *. والمعنى: وقالت اليهود كونوا هودا، وقالت النصارى: كونوا نصارى، فالمجموع قالوا للمجموع، لا أن كل فرد فرد أمر باتباع أي الملتين. وقد تقدم إيضاح ذلك وإشباع الكلام فيه في قوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة) *. * (قل بل ملة إبراهيم) *: قرأ الجمهور: بنصب ملة بإضمار فعل. أما على المفعول، أي بل نتبع ملة، لأن معنى قوله: * (كونوا هودا أو نصارى) *: اتبعوا اليهودية أو النصرانية. وأما على أنه خبر كان، أي بل تكون ملة إبراهيم، أي أهل ملة إبراهيم، كما قال عدي بن حاتم، إني من دين، أي من أهل دين، قاله الزجاح. وأما على أنه منصوب على الإغراء، أي الزموا ملة إبراهيم، قاله أبو عبيد. وأما على أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي نقتدي ملة، أي بملة، وهو يحتمل أن يكون خطابا للكفار، فيكون المضمر اتبعوا، أو كونوا. ويحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، فيقدر بنتبع، أو تكون، أو نقتدي على ما تقدم تقديره. وقرأ ابن هرمز الأعرج، وابن أبي عبلة: * (بل ملة إبراهيم) *، برفع ملة، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي بل الهدى ملة، أو أمرنا ملته، أو نحن ملته، أي أهل ملته، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي بل ملة إبراهيم حنيفا ملتنا.
* (حنيفا) *: ذكروا أنه منصوب على الحال من إبراهيم، أي في حال حنيفيته، قاله المهدوي وابن عطية والزمخشري وغيرهم. قال الزمخشري: كقولك رأيت وجه هند قائمة، وأنه منصوب بإضمار فعل، حكاه ابن عطية. وقال: لأن الحال تعلق من المضاف إليه. انتهى. وتقدير الفعل نتبع حنيفا، وأنه منصوب على القطع، حكاه السجاوندي، وهو تخريج كوفي، لأن النصب على لقطع إنما هو مذهب الكوفيين. وقد تقدم لنا الكلام فيه، واختلاف الفراء والكسائي، فكان التقدير: بل ملة إبراهيم الحنيف، فلما نكره، لم يمكن اتباعه إياه، فنصبه على القطع. أما الحال من المضاف إليه، إذا كان المضاف غير عامل في المضاف إليه قبل الإضافة، فنحن لا نجيز، سواء كان جزءا مما أضيف إليه، أو كالجزء، أو غير ذلك. وقد أمعنا الكلام على ذلك في (كتاب منهج المسالك) من تأليفنا. وأما النصب على القطع، فقد رد هذا الأصل البصريون. وأما إضمار الفعل فهو قريب، ويمكن أن يكون منصوبا على الحال من المضاف، وذكر حنيفا ولم يؤنث لتأنيث ملة، لأنه حمل على المعنى، لأن الملة هي الدين، فكأنه قيل: نتبع دين إبراهيم
(٥٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 572 573 574 575 576 577 578 579 580 581 582 ... » »»