تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٧٩
بعبادة الأوثان وغيرها.
* (قولوا ءامنا بالله) * الآية، خرج البخاري، عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، ولكن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية، فإن كان حقا لم تكذبوه وإن كان كذبا لم تصدقوه). والضمير في قوله: * (قولوا) * عائد على الذين قالوا: * (كونوا هودا أو نصارى) *. أمروا بأن يكونوا على الحق، ويصرحوا به. ويجوز أن يعود على المؤمنين، وهو أظهر. وارتبطت هذه الآية بما قبلها، لأنه لما ذكر في قوله: * (بل ملة إبراهيم) *، جوابا إلزاميا، وهو أنهم: وما أمروا باتباع اليهودية والنصرانية، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد. هذا، وكل طائفة منهما تكفر الأخرى، أجيبوا بأن الأولى في التقليد اتباع إبراهيم، لأنهم، أعني الطائفتين المختلفتين، قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم. والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فيه، إن كان الدين بالتقليد. فلما ذكر هنا جوابا إلزاميا، ذكر بعده برهانا في هذه الآية، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات. وقد ظهرت على يد محمد صلى الله عليه وسلم)، فوجب الإيمان بنبوته. فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالرد، يوجب التناقض في الدليل، وهو ممتنع عقلا.
* (وما أنزل إلينا) *: إن كان الضمير في قولوا للمؤمنين، فالمنزل إليهم هو القرآن، وصح نسبة إنزاله إليهم، لأنهم فيه هم المخاطبون بتكاليفه من الأمر والنهي وغير ذلك، وتعدية أنزل بإلى، دليل على انتهاء المنزل إليهم. وإن كان الضمير في قولوا عائدا على اليهود والنصارى، فالمنزل إلى اليهود: التوراة، والمنزل إلى النصارى: الإنجيل، ويلزم من الإيمان بهما، الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم). ويصح أن يراد بالمنزل إليهم: القرآن، لأنهم أمروا باتباعه، وبالإيمان به، وبمن جاء على يديه.
* (وما أنزل إلى إبراهيم) *: الذي أنزل على إبراهيم عشر صحائف. قال: * (إن هاذا لفى الصحف الاولى * صحف إبراهيم وموسى) *، وكرر الموصول، لأن المنزل إلينا، وهو القرآن، غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم. فلو حذف الموصول، لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إلى إبراهيم، قالوا: ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وعطفوا على إبراهيم، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه، فأضيف الإنزال إليهم، كما أضيف في قوله: * (وما أنزل إلينا) *. والأسباط هم أولاد يعقوب، وهم اثنا عشر سبطا. قال الشريف أبو البركات الجواني النسابة: وولد يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم): يوسف النبي صلى الله عليه وسلم)، صاحب مصر وعزيزها، وهو السبط الأول من أسباط يعقوب عليه السلام الاثني عشر، والأسباط سوى يوسف: كاذ، وبنيامين، ويهوذا، ويفتالي، وزبولون، وشمعون، وروبين، ويساخا، ولاوي، وذان، وياشيرخا من يهوذا بن يعقوب، وسليمان النبي صلى الله عليه وسلم). وجاء من سليمان عليه السلام النبي: مريم ابنة عمران، أم المسيح عليهما السلام. وجاء من لاوي بن يعقوب: موسى كليم الله وهارون أخوه عليهما السلام. انتهى كلامه. وقال ابن عطية: والأسباط هم ولد يعقوب. وهم: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ورفالون، وبشجر، وذينة بنته، وأمهم لياثم. خلف على أختها راحيل، فولدت له: يوسف، وبنيامين. وولد له من سريتين: داني، ونفتالي، وجاد، وآشر. انتهى كلامه، وهو مخالف لكلام الجواني في بعض الأسماء. وقيل: روبيل أكبر ولده. وقال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني: روبيل أصح وأثبت، يعني باللام، قال: وقبره في قرافة مصر، في لحف الجبل، في تربة أليسع عليهما السلام.
* (وما أوتى موسى وعيسى) *: أي: وآمنا بالذي أوتي موسى من التوراة والآيات، وعيسى من الإنجيل والآيات. وموسى هنا: هو موسى بن عمران، كليم الله. وقال الحسين بن أحمد البيساني: وفي ولد ميشا بن يوسف، يعني الصديق: موسى بن ميشا بن يوسف. وزعم أهل التوراة أن الله نبأه، وأنه صاحب الخضر. وذكر المؤرخون أنه لما مات يعقوب، فشا في الأسباط الكهانة، فبعث الله موسى بن ميشا يدعوهم إلى عبادة الله، وهو قبل موسى بن عمران بمائة سنة، والله أعلم بصحة ذلك. انتهى كلامه، ونص
(٥٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 574 575 576 577 578 579 580 581 582 583 584 ... » »»