تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٦٦
* (ولقد اصطفيناه في الدنيا) *: أي جعلناه صافيا من الأدناس، واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى ووصى بها، وبناء البيت، والإمامة، واتخاذ مقامه مصلى، وتطهير البيت، والنجاة من نار نمروذ، والنظر في النجوم، وأذانه بالحج، وإراءته مناسكه، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه، من خصائصه ووجوه اصطفائه. * (وإنه فى الاخرة لمن الصالحين) *: ذكر تعالى كرامة إبراهيم في الدارين، بأن كان في الدنيا من صفوته، وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد أن لا يعدل عن ملته. وهاتان الجملتان مؤكدتان، أما الأولى فباللام، وأما الثانية فبأن وباللام. ولما كان إخبارا عن حالة مغيبة في الآخرة، احتاجت إلى مزيد تأكيد، بخلاف حال الدنيا، فإن أرباب المآل قد علموا اصطفاء الله له في الدنيا بما شاهدوه منه ونقلوه جيلا بعد جيل. وأما كونه في الآخرة من الصالحين، فأمر مغيب عنهم يحتاج فيه إلى إخبار من الله تعالى، فأخبر الله به مبالغا في التوكيد، وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده، أي وأنه لصالح في الآخرة. وقال بعضهم: هو على إضمار، أعني: فهو للتبيين، كلك بعد سقيا، وإنما لم يتعلق بالصالحين، لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام، ولا يتقدم معمول الوصف إذ ذاك. وكان بعض شيوخنا يجوز ذلك، إذا كان المعمول ظرفا أو جارا ومجرورا، قال: لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما. وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة، بل معرفة، كهي في الرجل، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك. وقيل: في الآخرة، أي في عمل الآخرة، فيكون على حذف مضاف، وقيل: الآخرة هنا البرزخ، والصلاح ما يتبعه من الثناء الحسن في الدنيا. وقيل: الآخرة يوم القيامة، وهو الأظهر. قال ابن عباس: لمن الصالحين، أي الأنبياء. وقيل: من الذين يستوجبون صالح الجزاء، قال معناه الحسن. وقيل: الوارد بن موارد قدسه، والحالين مواطن أنسه. وقال الحسن بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير، ولقد اصطفيناه في الدنيا، وفي الآخرة، وأنه لمن الصالحين. وهذا الذي ذهب إليه خطأ ينزه كتاب الله عنه.
* (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) *: هذا من الالتفات، إذ لو جرى على الكلام السابق، لكان: إذ قلنا له أسلم، وعكسه في الخروج من الغائب إلى الخطاب قوله:
* باتت تشكي إلي النفس مجهشة * وقد حملتك سبعا بعد سبعينا * والعامل في إذ: قال أسلمت. وقيل: ولقد اصطفيناه، أي اخترناه في ذلك الوقت، وجوز بعضهم أن يكون بدلا من قوله: في الدنيا، وأبعد من جعل إذ قال في موضع الحال من قوله: ولقد اصطفيناه، وجعل العامل في الحال اصطفيناه، وقيل: محذوف تقديره أذكر. وعلى تقدير أن العامل اصطفيناه أو اذكر المقدرة، يبقى قوله: قال أسلمت، لا ينتظم مع ما قبله، إلا إن قدر، يقال: فحذف حرف العطف، أو جعل جوابا لكلام مقدر، أي ما كان جوابه؟ قال: أسلمت. وهل القول هنا على بابه، فيكون ذلك بوحي من الله وطلب؟ أم هذا كناية عما جعل الله في سجيته من الدلائل المفضية إلى الوحدانية وإلى شريعة الإسلام؟ فجعلت الدلالة قوما على سبيل المجاز، وإذا حمل على القول حقيقة، فاختلفوا متى قيل له ذلك. فالأكثرون على أنه قيل له ذلك قبل النبوة، وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية، وأمارات الحدوث، فلما عرف ربه، قال تعالى له أسلم. وقيل: كان بعد النبوة، فتؤول الأمر بالإسلام على أنه أمر بالثبات والديمومة، إذ هو متحل به وقت الأمر، ويكون الإسلام هنا على بابه، والمعنى: على شريعة الإسلام. وقيل: الإسلام هنا غير المعروف، وأول على وجوه، فقال عطاء: معناه سلم نفسك. وقال الكلبي وابن كيسان: أخلص دينك. وقيل: اخشع واخضع لله. وقيل: اعمل بالجوارح، لأن الإيمان هو صفة القلب، والإسلام هو صفة
(٥٦٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 561 562 563 564 565 566 567 568 569 570 571 ... » »»