تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٧٣
* دعاني إليها القلب إني لأمرها * سميع فما أدرى أرشد طلابها * يريد: أم غير رشد، فحذف لدلالة الكلام عليه، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه. فالمعنى: أقام زيد أم لم يقم، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله: أرشد طلابها، أي أم غير رشد. ويجوز حذف الثواني المقابلات إذ دل عليها المعنى. ألا ترى إلى قوله: * (تقيكم الحر) *، كيف حذف والبرد؟ إذ حضر العامل في إذ شهداء، وذلك على جهة الظرف، لا على جهة المفعول، كأنه قيل: حاضري كلامه في وقت حضور الموت، وكنى بالموت عن مقدماته لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئا، ومنه: * (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) *، أي ويأتيه دواعيه وأسبابه، وقال الشاعر:
* وقل لهم بادروا العذر والتمسوا * قولا يبرئكم إني أنا الموت * وفي قوله: حضر، كناية غريبة، إنه غائب لا بد أن يقدم، ولذلك يقال في الدعاء: واجعل الموت خير غائب ننتظره. وقرئ: حضر بكسر الضاد، وقد ذكرنا أن ذلك لغة، وأن مضارعها بضم الضاد شاذ، وقدم المفعول هنا على الفاعل للاعتناء. * (إذ قال لبنيه) *، إذ: بدل من إذ في قوله: إذ حضر، فالعامل فيه إما شهداء العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه، وإما شهداء مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل. وزعم القفال أن إذا وقت للحضور، فالعامل فيه حضر، وهو يؤول إلى اتحاد الظرفين، وإن اختلف عاملهما. * (ما تعبدون من بعدى) * ما: استفهام عما لا يعقل، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده. فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل، لأنه قد عبد بنو آدم والملائكة والشمس والقمر وبعض النجوم والأوثان المنحوتة، وأما من يذهب إلى تخصيص ما بغير العاقل، فقيل: هو سؤال عن صفة المعبود، لأن ما يسأل بها عن الصفات تقول: ما زيد، أفقيه أم شاعر؟ وقيل: سأل بما لأن المعبودات المتعارة في ذلك الوقت كانت جمادات، كالأوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم بما التي يستفهم بها عما لا يعقل. وفهم عنه بنوه فأجابوه: بأنا لا نعبد شيئا من هؤلاء. وقيل: استفهم بما عن المعبود تجربة لهم، ولم يقل من لئلا يطرق لهم الاهتداء، وإنما أراد أن يختبرهم وينظر ثبوتهم على ما هم عليه. وظاهر الكلام أنه استفهم عن الذي يعبدون، أي العبادة المشروعة؟ وقال القفال: دعاهم إلى أن لا يتحروا في أعمالهم غير وجه الله تعالى، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما خاف عليهم أن تشغلهم دنياهم. وفي ذلك دليل على أن شفقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أولادهم كانت في باب الدين، وهمتهم مصروفة إليهم. من بعدي: يريد من بعد موتي، وحكى أن يعقوب عليه السلام حين خير، كما يخير الأنبياء، اختار الموت وقال: أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا القول.
* (قالوا نعبد إلاهك وإلاه آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) *: هذه قراءة الجمهور. وقرأ أبي: وإله إبراهيم، بإسقاط آبائك. وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدري، وأبو رجاء: وإله أبيك. فأما على قراءة الجمهور، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك، أو عطف بيان. وإذا كان بدلا، فهو من البدل التفصيلي، ولو قرىء فيه بالقطع، لكان ذلك جائزا. وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوبا على إضمار، أعني: وفيه دلالة على أن
(٥٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 568 569 570 571 572 573 574 575 576 577 578 ... » »»