تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٧٦
لسنا نجري إلا على طريقتك. وقد يقال: إن في قوله: * (نعبد إلاهك وإلاه آبائك) * إشارة إلى الاستدلال العقلي على وجود الصانع، لأنه قد تقدم في أول السورة: * (قدير ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم) *، فمرادهم هنا بقولهم: * (نعبد إلاهك وإلاه آبائك) * الإله الذي دل عليه وجود آبائك، وهذا إشارة إلى الاستدلال.
* (تلك أمة قد خلت) *، تلك: إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وأبنائهما. ومعنى خلت: ماتت وانقضت وصارت إلى الخلاء، وهو الأرض الذي لا أنيس به. والمخاطب هم اليهود والنصارى الذين ادعوا لإبراهيم وبنيه اليهودية والنصرانية. والجملة من قوله: قد خلت، صفة لأمة. * (لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) *: أي تلك الأمة مختصة بجزاء ما كسبت، كما أنكم كذلك مختصون بجزاء ما كسبتم من خير وشر، فلا ينفع أحدا كسب غيره. وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد، أي لها ما كسبته. وجوزوا أن تكون ما مصدرية، أي لها كسبها، وكذلك ما في قوله: * (ولكم ما كسبتم) *. ويجوز أن تكون الجملة من قوله: * (لها ما كسبت) * استئنافا، ويجوز أن تكون جملة حالية من الضمير في خلت، أي انقضت مستقرا ثابتا، لها ما كسبت. والأظهر الأول، لعطف قوله: * (ولكم ما كسبتم) * على قوله: * (لها ما كسبت) *. ولا يصح أن يكون * (ولكم ما كسبتم) * عطفا على جملة الحال قبلها، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها. وزمان استقرار كسب المخاطبين، وعطف الحال على الحال، يوجب اتحاد الزمان. افتخروا بأسلافهم، فأخبروا أن أحدا لا ينفع أحدا، متقدما كان أو متأخرا. وروي: يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم يا فاطمة، لا أغني عنك من الله شيئا قال ابن عطية: وفي هذا الآية رد على الجبرية القائلين: لا اكتساب للعبد. انتهى.
وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الدين، وهي من المسائل المعضلة، ومذاهب أهل الإسلام فيها أربعة. أحدها: قول الجبرية، وهو أن العبد مجبور على فعله، وأنه لا اختيار له في ذلك، بل هو ملجأ إليه، وأن نسبة الفعل إليه كنسبة حركة الغصن إليه، إذا حركه محرك. والثاني: قول القدرية، وهو أنهم ليسوا مجبورين على الفعل، بل لهم قدرة على إيجاد الفعل. والثالث: قول المعتزلة، أن العبد له قدرة يخلقها الله له قبل الفعل، وهو متمكن من إيقاعه وعدم إيقاعه. والرابع: مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله يخلق للعبد تمكينا وقدرة مع الفعل يفعل بها الخير والشر، لا على سبيل الاضطرار والإلجاء، وهذا التمكين هو مناط التكليف الذي يترتب عليه العقاب والثواب. ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل، اختلفوا في تفسيره على ثلاثة تفاسير: أحدها: قول أبي الحسن: أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير في المقدور، بل القدرة والمقدور حصلا بخلق الله، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله، وهو متعلق القدرة الحادثة، هو الكسب. والثاني: قول الباقلاني: أن ذات الفعل لم تحصل له صفة، كونه طاعة ومعصية، بل هذه الصفة حصلت له بالقدرة الحادثة. والثالث: قول أبي إسحاق الإسفرايني: أن القدرتين، القديمة والحديثة، إذا تعلقتا بمقدور وقع بهما، فكان فعل
(٥٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 571 572 573 574 575 576 577 578 579 580 581 ... » »»