عليهم بقوله: أأنتم أعلم أم الله، لأن من خوطب بهذا الكلام بادر إلى أن يقول: الله أعلم، فكان ذلك أقطع للنزاع.
* (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) *: وهذا يدل على أنهم كانوا عالمين بأن إبراهيم ومن معه كانوا مباينين لليهودية والنصرانية، لكنهم كتموا ذلك. وقد تقدم الكلام على هذا الاستفهام، وأنه يراد به النفي، فالمعنى: لا أحد أظلم ممن كتم. وتقدم الكلام في أفعل التفضيل الجائي بعد من الاستفهام في قوله: * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله) *، والمنفي عنهم التفضيل في الكتم اليهود، وقيل: المنافقون تابعوا اليهود على الكتم. والشهادة هي أن أنبياء الله معصومون من اليهودية والنصرانية الباطلتين، قاله الحسن، ومجاهد، والربيع، أو ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم) ونبوته، والأمر بتصديقه، قاله قتادة، وابن زيد؛ أو الإسلام، وهم يعلمون أنه الحق. والقول الأول أشبه بسياق الآية.
من الله: يحتمل أن تكون من متعلقة بلفظ كتم، ويكون على حذف مضاف، أي كتم من عباد الله شهادة عنده، ومعناه أنه ذمهم على منع أن يصل إلى عباد الله، وأن يؤدوا إليهم شهادة الحق. ويحتمل أن تكون من متعلقة بالعامل في الظرف، إذ الظرف في موضع الصفة، والتقدير: شهادة كائنة عنده من الله، أي الله تعالى قد أشهده تلك الشهادة، وحصلت عنده من قبل الله، واستودعه إياها، وهو قوله * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا) * الآية. وقال ابن عطية في هذا الوجه: فمن على هذا متعلقة بعنده، والتحرير ما ذكرناه أن العامل في الظرف هو الذي يتعلق به الجار والمجرور، ونسبة التعلق إلى الظرف مجاز. وقال الزمخشري: أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها، وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية. ومن في قوله: شهادة من الله، مثلها في قولك: هذه شهادة مني لفلان، إذا شهدت له، ومثله: * (عليم براءة من الله ورسوله) *. انتهى. فظاهر كلامه: أن من الله في موضع الصفة لشهادة، أي كائنة من الله، وهو وجه ثالث في العامل في من. والفرق بينه وبين ما قبله: أن العامل في الوجه قبله في الظرف والجار والمجرور واحد، وفي هذا الوجه اثنان، وكان جعل من معمولا للعامل في الظرف، أو في موضع الصفة لشهادة، أحسن من تعلق من بكتم، لأنه أبلغ في الأظلمية أن تكون الشهادة قد استودعها الله إياه فكتمها. وعلى التعلق بكتم، تكون الأظلمية حاصلة لمن كتم من عباد الله شهادة مطلقة وأخفاها عنهم، ولا يصح إذ ذاك الأظلمية، لأن فوق هذه الشهادة ما تكون الأظلمية فيه أكثر، وهو كتم شهادة استودعه الله إياها، فلذلك اخترنا أن لا تتعلق من بكتم، قال الزمخشري: ويحتمل معنيين: أحدهما: أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم، لأنهم كتموا هذه الشهادة، وهم عالمون بها. والثاني: أنا لو كتمنا هذه الشهادة ، لم يكن أحد أظلم منا، فلا نكتمها، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته. انتهى كلامه، والمعنى الأول هو الظاهر، لأن الآية إنما تقدمها الإنكار، لما نسبوه إلى إبراهيم ومن ذكر معه. فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب، لا مع الرسول صلى الله عليه وسلم) وأتباعه، لأنهم مقرون بما أخبر الله به، وعالمون بذلك العلم اليقين، فلا يفرض في حقهم كتمان ذلك.
وذكر في (ري الظمآن): أي في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير: ومن أظلم ممن كتم شهادة حصلت له؟ كقولك: ومن أظلم من زيد؟ من جملة الكاتمين للشهادة. والمعنى: لو كان إبراهيم وبنوه يهودا ونصارى. ثم إن الله كتم هذه الشهادة، لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه، لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عن الكذب، علمنا أن الأمر ليس كذلك. انتهى. وهذا الوجه متكلف جدا من حيث التركيب، ومن حيث المدلول. أما من حيث التركيب، فزعم قائله أن ذلك على التقديم والتأخير، وهذا لا يكون عندنا إلا في الضرائر. وأيضا، فيبقى قوله: ممن كتم، متعلق: إما بأظلم، فيكون ذلك على طريقة البدلية، ويكون إذ ذاك بدل