أول مرة بالمقام الأعلى رأى أن كثيرا من الناس قد يعجزون عنه فنزل عنه إلى المقام الآخر واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه بالتزام الطاعة وترك المعاصي وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك ثم بعد المشارطة والمرابطة أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه فإن وجد نفسه قد أوفى بما عهد عليه الله حمد الله وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة ونقص عهد المرابطة عاقب النفس عقابا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على المراقبة ثم اختبر بالمحاسبة فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى * (وآتوا اليتامى أموالهم) * خطاب للأوصياء وقيل للعرب الذين لا يورثون الصغير مع الكبير أمروا أن يورثوهم وعلى القول بأن الخطاب للأوصياء فالمراد أن يأتوا اليتامى من أموالهم ما يأكلون ويلبسون في حال صغرهم فيكون اليتيم على هذا حقيقة وقيل المراد دفع أموالهم إليهم إذا بلغوا فيكون اليتيم على هذا مجاز لأن اليتيم قد كبر * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله والدرهم الطيب بالزائف فنهوا عن ذلك وقيل المعنى لا تأكلوا أموالهم وهو الخبيث وتدعوا مالكم وهو الطيب * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * المعنى نهى أن يأكلوا أموال اليتامى مجموعة إلى أموالهم وقيل نهى عن خلط أموالهم بأموال اليتامى ثم أباح ذلك بقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم وإنما تعدى الفعل بإلى لأنه تضمن معنى الجمع والضم وقيل بمعنى مع * (حوبا) * أي ذنبا " فإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا " الآية قالت عائشة نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال أوليائهم فيريدون أن يتزوجوهن ويبخسوهن في الصداق مكان ولايتهم عليهم فقيل لهم أقسطوا في مهورهن فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج بما طاب له من الأجنبيات اللاتي يوفهن حقوقهن وقال ابن عباس إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء فنزلت الآية في ذلك أي كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى كذلك خافوا النساء وقيل إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة أو أكثر فإذا ضاق ماله أخذ من أمال اليتيم فقيل لهم إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا في النساء على ما طاب أي ما حل وإنما قال ما ولم يقل من لأنه أراد الجنس وقال الزمخشري لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء ومنه قوله وما ملكت أيمانكم * (مثنى وثلاث ورباع) * لا ينصرف للعدل والوصف وهي حال من ما طاب وقال ابن عطية بدل وهي عدوله عن إعداد مكرره ومعنى التكرار فيها أن الخطاب لجماعة فيجوز لكل واحد منهم أن ينكح ما أراد من تلك الأعداد فتكررت الأعداد بتكرار الناس والمعنى أنكحوا اثنتين أو ثلاث أو أربعا وفي ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوج ما زاد على الأربع وقال قوم لا يعبأ بقولهم إنه يجوز الجمع بين تسع لأن مثنى وثلاث ورباع يجمع فيه تسعة وهذا خطأ لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا الجمع ولو أراد الجمع لقال تسع ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانا وأيضا قد أنعقد الإجماع
(١٢٩)