ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه، فيكون ما روى من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي (1) " الآية.
قلت: وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا. وقد قال سليمان بن حرب: إن " في " بمعنى عنده، أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله عز وجل: " ولبثت فينا (2) " [الشعراء: 18] أي عندنا. وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي، وقال قبله: إن هذه الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه أنه قاله، وذلك أن الله تعالى قال: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " أي في تلاوته. فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي. تقول:
ألقيت في الدار كذا، وألقيت في الكيس كذا، فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به. ثم ذكر معنى كلام عياض إلى أن قال: وما هدى لهذا إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده في النظر، وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوب على هذا المرمى، وقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد.
وأما غيره من التأويلات مما حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى قال كذا فهو محال، إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الانسان الاختيار، قال الله تعالى مخبرا عنه: " وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي (3) " [إبراهيم: 22]، ولو كان للشيطان هذه القدرة لما بقى لاحد