للصابرين) * [النحل، الآية: 126] للتسجيل عليهم بالمدح والتعظيم بصفة الصبر، فإن الصابر ترقى عن مقام النفس وقابل فعل نفس صاحبه بصفة القلب فلم يتكدر بظهور صفة النفس وعارض ظلمة نفس صاحبه بنور قلبه، فكثيرا ما يندم ويتجاوز عن مقام النفس، وتنكسر سورة غضبه فيصلح، وإن لم يكن لكم هذا المقام الشريف فلا تعاقبوا المسئ لسورة الغضب بأكثر مما جنى عليكم فتظلموا، أو تتورطوا بأقبح الرذائل وأفحشها فيفسد حالكم ويزيد وبالكم على وبال الجاني.
[تفسير سورة النحل من آية 127 إلى آية 128] * (واصبر وما صبرك إلا بالله) * اعلم أن الصبر أقسام: صبر لله، وصبر في الله، وصبر مع الله، وصبر عن الله، وصبر بالله، فالصبر لله هو من لوازم الإيمان وأول درجات أهل الإسلام. قال النبي عليه صلى الله عليه وسلم: ' الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر '، وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه، وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل الله لأهل دينه وطاعته المقتضى للثواب الجزيل. والصبر في الله هو الثبات في سلوك طريق الحق، وتوطين النفس على المجاهدة بالاختيار، وترك المألوفات واللذات، وتحمل البليات، وقوة العزيمة في التوجه إلى منبع الكمالات، وهو من مقامات السالكين، يهبه الله لمن يشاء من فضله من أهل الطريقة. والصبر مع الله هو لأهل الحضور، والكشف عند التجرد عن ملابس الأفعال والصفات، والتعرض لتجليات الجمال والجلال، وتوارد واردات الأنس والهيبة، فهو بحضور القلب لمن كان له قلب، والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند التلوينات بظهور النفس وهو أشق على النفس من الضرب على الهام، وإن كان لذيذا جدا. والصبر عن الله هو لأهل الجفاء والحجاب، نورانيا كان أو ظلمانيا، وهو مذموم جدا، وصاحبه ملوم حقا وكلما كان أصبر كان أسوأ حالا وأبعد، وكلما كان في ذلك أقوى كان ألوم وأجفى أو لأهل العيان والمشاهدة من العشاق والمشتاقين المتقلبين في أطوار التجلي والاستتار، والمنخلعين عن الناسوت المتنورين بنور اللاهوت ما بقي لهم قلب ولا وصف كلما لاح لهم نور من سبحات أنوار الجمال احترقوا وتفانوا، وكلما ضرب لهم حجاب ورد وجوههم تشويقا وتعظيما ذاقوا من ألم الشوق وحرقة الفرقة ما عيل به صبرهم وتحقق موتهم وهو من أحوال المحبين ولا شيء أشق من هذا الصبر وأشد تحملا وأقتل، فإن أطاقه المحب كان خافيا وإن لم يطق كان فانيا فيه هالكا، وفي هذا المقام قال الشبلي: