تفسير النسفي - النسفي - ج ٢ - الصفحة ١٥٦
(الذين غرقوا يقال بعد بعداو بعدا إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ولذلك خص بدعاء السوء والنظر في هذه الآية من اربع جهات من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول إن الله تعالى لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد و أن نقطع طوفان السماء فانقطع و أن نغيض الماء النازل من السماء فغيض و أن نقضي أم أمد نوح وهو انجاز ما كما وعدناه من إغراق قومه فقضى و أن نسوى السفينة على الجودى فاستوت وأبقينا الظلمة غرقى بنى الكلام على تشبيه المراد بالأمر الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته العصيان وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لافتداره العظيم و أن السماوات و الأرض منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة لإرادته فيها تغييرا وتبديلا كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره والاذعان لحكمه ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده ثم بنى على تشبيه هذ نظم الكلام فقال عز وجل وقيل على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل وجعل قرينه المجاز الخطاب للجماد وهو يا ارض ويا سماء ثم قال مخاطبا لهما يا ارض ويا سماء على سبيل الاستعارة للشبه المذكور ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفى ثم استعار الماء للغذاء تشبيها له بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الانبات كتقوى الآكل بالطعام ثم قال ماءك بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز لإتصال الماء بالأرض كاتصال الملك بالمالك ثم اختار لاحتباس المطر الاقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم التأنى ثم قال وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا ولم يصرح بمن غاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعدا كما لم يصرح بقائل يا ارض ويا سماء سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية و أن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وتكوين مكون قاهر وان فاعلها واحد لا يشارك في فعله فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره ياء ارض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعى ولا أن يكون الغائض والقاضي والمسوى غيره ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكى مسلكههم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم اظهارا لمكان السخط و أن ذلك العذاب الشديد ما كان إلا لظلمهم ومن جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها وذلك أنه اختبر يا دون أخواتها لكونها أكثر استعمالا ولدلاتها على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام اظهار العظمة والملكوت وابداء العزة والجبروت وهو تعبيد المنادى والمؤذن بالتهاون به ولم يقل يا ارض لزيادة التهاون إذ الإضافة تستدعى القرب ولم يقل يا أيتها الأرض للاختصار واختير لفظ الأرض والسماء لكونهما أخف وأدور واختير ابلعي على ابتلعى لكونه اخصر وللتجانس بينه وبين اقلعى وقيل اقلعى ولم يقل عن المطر وكذا لم يقل يا ارض ابلعي ماءك فبلعت ويا سماء أقلعى فأقلعت اختصارا أو اختير غيض على غيض وقيل الماء دون أن يقول ماء الطوفان والأمر ولم يقل أمر
(١٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 151 152 153 154 155 156 157 158 159 160 161 ... » »»