تفسير البغوي - البغوي - ج ٣ - الصفحة ٢٥٩
امرأته رحمة وهي بنت أفراثيم بن يوسف بن يعقوب كانت تختلف إليه بما يصله وتلزمه فلما رأى الثلاثة من أصحابه وهم النغر ويلدد وصافر ما ابتلاه الله به واتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه فلما طال به البلاء انطلقوا إليه فبكتوه ولاموه وقالوا له تب إلى الله من الذنب الذي عوقبت به وكان ممن حضره معهم فتى حديث السن قد آمن به وصدقه فقال لهم إنكم تكلمتم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم ولكن قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته من خلقه وصفوته من أهل الأرض في يومكم هذا ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله من أمره على أنه قد سخط عليه شيئا من أمره منذ آتاه الله ما آتاه إلى يومك هذا ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها ولأن أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا فإن كان البلاء هو الذي أزري به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله يبتلي المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين وليس بلاؤه لأولئك بدليل على سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ولكنه كرامة وخيرة لهم ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل أن يعذل أخاه عند البلاء ولا أن يعيره بالمصيبة ولا أن يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين ولكنه يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ويحزن لحزنه ويدل على مراشد أمره وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا فالله الله أيها الكهول وقد كان في عظمة الله عز وجل وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم ألم تعلموا أن لله عبادا أسكتتهم خشية من غير عي ولا بكم وأنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاما وإجلالا لله عز وجل فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله عز وجل بالأعمال الزكية يعدون أنفسهم مع الظالمين الخاطئين وأنهم لأبرار نزهاء برءاء ومع المقصرين والمفرطين وأنهم لأكياس أقوياء فقال إن الله عز وجل يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة ولا طول التجربة وإذا جعل الله العبد حكيما في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله عليه نور الكرامة ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستغيثا به متضرعا إليه فقال رب لأي شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني قد عرفت الذنب الذي أذنبت وبالعمل الذي عملت فصرفت به وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي الكرام فالموت كان أجمل بي ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا وللأرملة قيما إلهي أنا عبدك إن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي وجعلتني للبلاء عرضا وللفتنة نصبا وقد وقع لعي بلاء لو سلطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي وإن قضاءك هو الذي أذلني وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بما كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو لا يراني ولا أراه يسمعني ولا أسمعه فلا
(٢٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 264 ... » »»