أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٥٧٥
الزهري. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة الصفي وهو ما كان يصطفيه من جملة الغنيمة قبل أن يقسم المال، وكان له أيضا سهم من الخمس، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم من الفيء هذه الحقوق يصرفها في نفقة عياله والباقي في نوائب المسلمين، ولم يكن لأحد فيها حق إلا من يختار هو صلى الله عليه وسلم أن يعطيه. وفي هذه الآية دلالة على أن كل مال من أموال أهل الشرك لم يغلب عليه المسلمون عنوة وإنما أخذ صلحا أنه لا يوضع في بيت مال المسلمين ويصرف على الوجوه التي يصرف فيها الخراج والجزية، لأنه بمنزلة ما صار للنبي صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير حين لم يوجف المسلمون عليه.
وقوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول) الآية. قال أبو بكر: بين الله حكم ما لم يوجف عليه المسلمون من الفيء جعله للنبي صلى الله عليه وسلم على ما قدمنا من بيانه، ثم ذكر حكم الفئ الذي أوجف المسلمون عليه فجعله لهؤلاء الأصناف وهم الأصناف الخمس المذكورون في غيرها، وظاهره يقتضي أن لا يكون للغانمين شيء منه إلا من كان منهم من هذه الأصناف. وقال قتادة: " كانت الغنائم في صدر الاسلام لهؤلاء الأصناف ثم نسخ بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) [الأنفال:
41] ". قال أبو بكر: لما فتح عمر رضي الله عنه العراق سأله قوم من الصحابة قسمته بين الغانمين، منهم الزبير وبلال وغيرهما، فقال: إن قسمتها بينهم بقي آخر الناس لا شيء لهم، واحتج عليهم بهذه الآية إلى قوله: (والذين جاؤوا من بعدهم): وشاور عليا وجماعة من الصحابة في ذلك، فأشاروا عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها عليها ويضع عليها الخراج، ففعل ذلك، ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية. وهذا يدل على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها مضمومة إلى آية الغنيمة في الأرضين المفتتحة، فإن رأى قسمتها أصلح للمسلمين وأرد عليهم قسم، وإن رأى إقرار أهلها عليها وأخذ الخراج منهم فيها فعل، لأنه لو لم تكن هذه الآية ثابتة الحكم في جواز أخذ الخراج منها حتى يستوي الآخر والأول فيها لذكروه له وأخبروه بنسخها، فلما لم يحاجوه بالنسخ دل على ثبوت حكمها عندهم وصحة دلالتها لديهم على ما استدل به عليه، فيكون تقدير الآيتين بمجموعهما: واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه في الأموال سوى الأرضين وفي الأرضين إذا اختار الإمام ذلك، وما أفاء الله على رسوله من الأرضين فلله وللرسول إن اختار تركها على ملك أهلها، ويكون ذكر الرسول ههنا لتفويض الأمر عليه في صرفه إلى من رأى، فاستدل عمر رضي الله عنه من الآية بقوله: (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) وقوله: (والذين جاؤوا من بعدهم) وقال: لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم، ولم يكن لمن جاء بعدهم من المسلمين شيء، وقد جعل لهم فيها الحق
(٥٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 570 571 572 573 574 575 576 577 578 579 580 ... » »»