أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٥٧٤
من الإثم. قال أبو بكر: صوب الله الذين قطعوا والذين أبوا وكانوا فعلوا ذلك من طريق الاجتهاد، وهذا يدل على أن كل مجتهد مصيب. وقد روي عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: " أغر على أبني صباحا وحرق ". وروى قتادة عن أنس قال: " لما قاتل أبو بكر أهل الردة قتل وسبي وحرق ". وروى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: " لما تحصن بنو النضير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخلهم وتحريقه، فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت ترضى بالفساد! فأنزل الله: (ما قطعتم من لينة) الآية ". وروى عثمان بن عطاء عن أبيه قال: " لما وجه أبو بكر الجيش إلى الشام كان فيما أوصاهم به ولا تقطع شجرة مثمرة ".
قال أبو بكر: تأوله محمد بن الحسن على أنهم قد علموا أن الله سيغنمهم إياها وتصير للمسلمين بوعد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بفتح الشام فأراد عليهم أن تبقى للمسلمين، وأما جيش المسلمين إذا غزوا أرض الحرب وأرادوا الخروج فإن الأولى أن يحرقوا شجرهم وزروعهم وديارهم، وكذلك قال أصحابنا في مواشيهم: " إذا لم يمكنهم اخراجها ذبحت ثم أحرقت "، وأما ما رجوا أن يصير فيئا للمسلمين فإنهم إن تركوه ليصير للمسلمين جاز وإن أحرقوه غيظا للمشركين جاز، استدلالا بالآية وبما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أموال بني النضير.
وقوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل) الآية.
الفئ الرجوع، ومنه الفيء في الإيلاء في قوله: (فإن فاؤوا) [البقرة: 226]، وأفاءه عليه إذا رده عليه. والفيء في مثل هذا الموضع ما صار للمسلمين من أموال أهل الشرك، فالغنيمة فيء والجزية فيء والخراج فيء لأن جميع ذلك مما ملكه الله المسلمين من أموال أهل الشرك. والغنيمة وإن كانت فيئا فإنها تختص بمعنى لا يشاركها فيه سائر وجوه الفيء، لأنها ما أخذ من أموال أهل الحرب عنوة بالقتال، فمنها ما يجري فيه سهام الغانمين بعد اخراج الخمس لله عز وجل، وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال: " كانت أموال بني النضير فيئا مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله ". قال أبو بكر:
فهذا من الفئ الذي جعل الأمر فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لأحد فيه حق إلا من جعله له النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله ويجعل الباقي في الكراع والسلاح، و ذلك لما بينه الله في كتابه وهو أن المسلمين لو يوجفوا عليه بخيل و لا ركاب ولم يأخذوه عنوة وإنما أخذوه صلحا وكذلك كان حكم فدك وقرى عرينة فيما ذكره
(٥٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 569 570 571 572 573 574 575 576 577 578 579 ... » »»