وأن الحكم للغالب منها دون المستهلكات المغمورة مما خالطها، وقد اتفقنا على أن مخالطة النجاسة اليسيرة لسائر المائعات غير الماء تفسدها ولم يكن للغلبة معها حكم بل كان الحكم لها دون الغالب عليها من غيرها، فكذلك الماء، فإن كان الماء إنما يكون مطهرا للنجاسة لمجاورته لها فواجب أن يطهرها بالمجاورة وإن لم يكن غامرا لها، وإن كان إنما يصير مطهرا لها من أجل غموره لها وغلبته عليها فقد يكون سائر المائعات إذا خالطتها نجاسة غامرة لها وغالبة عليها وكان الحكم مع ذلك للنجاسة دون ما غمرها.
ويدل على صحة قولنا ما اتفقوا عليه من تحريم استعماله عند ظهور النجاسة فيه، فالمعنى أنه لا نصل إلى استعماله إلا باستعمال جزء من النجاسة، وأيضا العلم بوجود النجاسة فيه كمشاهدتنا لها، كما أن علمنا بوجودها في سائر المائعات كمشاهدتنا لها بظهورها وكالنجاسة في الثوب والبدن العلم بوجودها كمشاهدتها.
واحتج من خالف في ذلك بحديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بئر بضاعة، وهي بئر تطرح فيه عذرة الناس ومحائض النساء ولحوم الكلاب، فقال: " إن الماء طهور لا ينجسه شيء "، وبحديث أبي بصرة عن جابر وأبي سعيد الخدري قالا: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانتهينا إلى غدير فيه جيفة، فكففنا وكف الناس حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه، فقال: " استقوا فإن الماء لا ينجسه شيء ". فاستقينا وارتوينا، وبما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الماء طهور لا ينجسه شيء ". والجواب عن ذلك أنه قد حكي عن الواقدي أن بئر بضاعة كانت طريقا للماء إلى البساتين، فهذا يدل على أنه كان جاريا حاملا لما يقع فيه من الأنجاس وينقله، وجائز أن يكون سئل عنها بعد ما نظفت من الأخباث، فأخبر بطهارتها بعد النزح. وأما قصة الغدير فجائز أن تكون الجيفة كانت في جانب منه، فأباح صلى الله عليه وسلم الوضوء من الجانب الآخر، وهذا يدل على صحة قول أصحابنا في اعتبار الغدير. وأما حديث ابن عباس فإن أصله ما رواه سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: إني كنت جنبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الماء لا يجنب "، والمراد أن إدخال الجنب يده فيه لا ينجسه، فجائز أن يكون الراوي سمع ذلك فنقل المعنى عنده دون اللفظ. ويدل على أن معناه ما وصفنا أن من مذهب ابن عباس الحكم بتنجيس الماء بوقوع النجاسة فيه وإن لم تغيره. وقد روى عطاء وابن سيرين أن زنجيا مات في بئر زمزم، فأمر ابن عباس بنزحها. وروى حماد عن إبراهيم عن ابن عباس قال: " إنما ينجس الحوض أن تقع فيه فتغتسل وأنت جنب، فأما إذا أخذت بيدك تغتسل فلا بأس ". ولو صح أيضا هذا اللفظ احتمل أن يكون في قصة بئر بضاعة، فحذف ذكر السبب ونقل لفظ