أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٤٥
النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا فإن قوله: " الماء طهور لا ينجسه شيء " لا دلالة فيه على جواز استعماله، وإنما كلامنا في جواز استعماله بعد حلول النجاسة فيه، فليس يجوز الاعتراض به على موضع الخلاف، لأنا نقول إن الماء طهور لا ينجسه شيء ومع ذلك لا يجوز استعماله إذا حلته نجاسة، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فاستعملوه حتى تحتج به لقولك.
فإن قيل: هذا الذي ذكرت يؤدي إلى إبطال فائدته. قيل له: قد سقط استدلالك بالظاهر إذا وصرت إلى أن تستدل بغيره، وهو أن حمله على غير مذهبك تخلية من الفائدة، ونحن نبين أن فيه ضروبا من الفوائد غير ما ادعيت من جواز استعماله بعد حلول النجاسة فيه، فنقول: إنه أفاد أن الماء لا ينجس بمجاورته للنجاسة ولا يصير في حكم أعيان النجاسات، واستفدنا به أن الثوب والبدن إذا أصابتهما نجاسة فأزيلت بموالاة صب الماء عليها أن الباقي من الماء الذي في الثوب ليس هو في حكم الماء الذي جاوره عين النجاسة فيلحقه حكمها لأنه إنما جاور ما ليس بنجس في نفسه، وإنما يلحقه حكم النجاسة بمجاورته لها، ولولا قوله صلى الله عليه وسلم لكان جائزا أن يظن ظان أن الماء المجاور للنجاسة قد صار في حكم عين النجاسة فينجس ما جاوره، فلا يختلف حينئذ حكم الماء الثاني والثالث إلى العاشر وأكثر من ذلك في كون جميعه نجسا، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الظن وأفاد أن الماء الذي لحقه حكم النجاسة من جهة المجاورة لا يكون في معنى أعيان النجاسات، وأفادنا أيضا أن البئر إذا ماتت فيه فأرة فأخرجت أن حكم النجاسة إنما لحق ما جاور الفأرة دون ما جاور هذا الماء وأن الفأرة لم تجعله بمنزلة أعيان النجاسات، فلذلك حكمنا بتطهير بعض ما بها.
فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرت لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: " الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه " معنى، لأن الماء المجاور للنجاسة ليس بنجس في نفسه مع ظهور النجاسة فيه. قيل له: هذا أيضا معنى صحيح غير ما ادعيت واستفدنا به فائدة أخرى غير ما استفدناه بالخبر الذي اقتصر فيه على قوله: " الماء طهور لا ينجسه شيء " عاريا من ذكر الاستثناء، وذلك لأنه إخبار عن حال غلبة النجاسة وسقوط حكم الماء معها فيصير الجميع في حكم أعيان النجاسات، وأفاد بذلك أن الحكم للغالب، كما تقول في الماء إذا مازجه اللبن أو الخل أن الحكم للأغلب منهما، وقد تكلمنا في هذه المسألة وفي مسألة القلتين في مواضع فأغنى عن إعادته ههنا.
فصل وأما الماء المستعمل فإن أصحابنا والشافعي لا يجيزون الوضوء به على اختلاف
(٤٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 440 441 442 443 444 445 446 447 448 449 450 ... » »»