أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٢٩٧
والمضغة ولد ولا حمل وإنما ذكر أنه خلقنا من المضغة والعلقة كما أخبر أنه خلقنا من النطفة ومن التراب، ومعلوم أنه حين أخبرنا أنه خلقنا من المضغة والعلقة فقد اقتضى ذلك أن لا يكون الولد نطفة ولا علقة ولا مضغة، لأنه لو كانت العلقة والمضغة والنطفة ولدا لما كان الولد مخلوقا منها، إذ ما قد حصل ولدا لا يجوز أن يقال قد خلق منه ولد وهو نفسه ذلك الولد، فثبت بذلك أن المضغة التي لم يستبن فيها خلق الانسان ليس بولد.
وقوله: " إن الله أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلقة قد دخلت فيما ذكر من خلق الانسان كما ذكر المخلقة " فإنه إن كان هذا استدلالا صحيحا فإنه يلزمه أن يقول مثله في النطفة، لأن الله قد ذكرها فيما ذكر من خلق الناس كما ذكر المضغة، فينبغي أن تكون النطفة حملا وولدا لذكر الله لها فيما خلق الناس منه.
فإن قيل: قد ذكر الله أنه خلقنا من مضغة مخلقة وغير مخلقة والمخلقة هي المصورة وغير المخلقة غير المصورة، فإذا جاز أن يقول خلقكم من مضغة مصورة مع كون المصورة ولدا لم يمتنع أن يكون غير المصورة ولدا مع قوله: " خلقكم من مضغة غير مخلقة ". قيل له: جائز أن يكون معنى المخلقة ما ظهر فيه بعض صورة الانسان فأراد بقوله: " خلقكم منها " تمام الخلق وتكميله، فأما ما ليس بمخلقة فلا فرق بينه وبين النطفة لعدم الصورة فيها، فيكون معنى قوله: " خلقكم منها " أنه أنشأ الولد منها وإن لم يكن ولدا قبل ذلك، هذا هو حقيقة اللفظ وظاهره. وأما قوله: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) [الطلاق: 4] فإنه معلوم أن مراده وضع الولد فما ليس بولد فليس بمراد، وهذا لا يشكل على أحد له أدنى تأمل.
وقال إسماعيل أيضا: لا تخلو هذه المضغة وما قبلها من العلقة من أن تكون ولدا أو غير ولد، فإن كانت ولدا قبل أن يخلق فحكمها قبل أن يخلق وبعدها واحد وإن كانت ليست بولد إلى أن يخلق فلا ينبغي أن يرث الولد أباه إذا مات حين تحمل به أمه قبل أن يخلق.
قال أبو بكر: وهذا إغفال ثان وكلام منتقض بإجماع الفقهاء، وذلك لأنه معلوم أنه إذا مات عن امرأته وجاءت بولد لسنتين على قول من يجعل أكثر مدة الحمل سنتين أو لأربع سنين على قول من يجعل أكثر الحمل أربع سنين أو الولد يرثه، ومعلوم أنه إنما كان نطفة وقت وفاة الأب وقد ورثه، ومع ذلك فلا خلاف أن النطفة ليست بحمل ولا ولد وأنه لا تنقضي بها العدة ولا تعتق بها أم الولد، فبان بذلك فساد اعتلاله وانتقاض قوله، وليست علة الميراث كونه ولدا لأن الولد الميت هو ولد تنقضي بها العدة ويثبت به
(٢٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 292 293 294 295 296 297 298 299 300 301 302 ... » »»