أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٠٨
حللتم فاصطادوا). وقال إبراهيم، كان المشركون لا يأكلون من البدن حتى نزلت:
(فكلوا منها) فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل. وروى يونس بن بكير عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال: " كان الناس في الجاهلية إذا ذبحوا لطخوا بالدم وجه الكعبة وشرحوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا لا يحل لنا أن نأكل شيئا جعلناه لله حتى تأكله السباع والطير، فلما جاء الاسلام جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: شيئا كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن فإنما هو لله؟ فأنزل الله تعالى: (فكلوا منها وأطعموا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تفعلوا فإن ذلك ليس لله ". وقال الحسن: فلم يعزم عليهم الأكل فإن شئت فكل وإن شئت فدع، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل من لحم الأضحية.
قال أبو بكر: وظاهر الآية يقتضي أن يكون المذكور في هذه الآية من بهيمة الأنعام التي أمرنا بالتسمية عليها هي دم القران والمتعة، وأقل أحوالها أن تكون شاملة لدم القران والمتعة وسائر الدماء وإن كان الذي يقتضيه ظاهره دم المتعة والقران، والدليل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة: (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران، إذ كان سائر الدماء جائزا له فعلها قبل هذه الأفعال وبعدها، فثبت أن المراد بها دم القران والمتعة. وزعم الشافعي أن دم المتعة والقران لا يؤكل منهما، وظاهر الآية يقتضي بطلان قوله. وقد روى جابر وأنس وغيرهما: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا في حجة الوداع ". وروى جابر أيضا وابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجة الوداع مائة بدنة، نحر بيده منها ستين وأمر ببقيتها فنحرت وأخذ من كل بدنة بضعة فجمعت في قدر وطبخت وأكل منها وتحسى من المرقة فأكل صلى الله عليه وسلم من دم القران ". وأيضا لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا وأنه لم يكن ليختار من الأعمال إلا أفضلها فثبت أن القران أفضل من الإفراد وأن الدم الواجب به إنما هو نسك وليس بجبران لنقص أدخله في الإحرام، ولما كان نسكا جاز الأكل منه كما يأكل من الأضاحي والتطوع. ويدل على أنه كان قارنا أن حفصة قالت: يا رسول الله ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: " إني سقت الهدي فلا أحل إلا يوم النحر، ولو استقبلت من أمري ما استدبرته ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة "، فلو كان هديه تطوعا لما منعه الإحلال، لأن هدي التطوع لا يمنع الإحلال.
فإن قيل: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قارنا فقد كان إحرام الحج يمنعه الإحلال، فلا تأثير للهدي في ذلك. قيل له: لم يكن إحرام الحج مانعا في ذلك الوقت من الإحلال قبل يوم النحر، لأن فسخ الحج كان جائزا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين أحرموا بالحج أن يتحللوا بعمل عمرة، فكانوا في ذلك الوقت بمنزلة المتمتع الذي يحرم بالعمرة مفردا
(٣٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 303 304 305 306 307 308 309 310 311 312 313 ... » »»