حرام بن محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال: " كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل ".
قال أبو بكر: ذكر في الحديث الأول حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء، وذكر في هذا الحديث حرام بن محيصة عن البراء بن عازب، ولم يذكر في الحديث الأول ضمان ما أصابت الماشية ليلا وإنما ذكر الحفظ فقط، وهذا يدل على اضطراب الحديث بمتنه وسنده. وذكر سفيان بن حسين عن الزهري عن حرام بن محيصة فقال: ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث)، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخ، وذلك لأن داود عليه السلام حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف بين المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم ولا تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه، فثبت أن الحكمين جميعا منسوخان بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: قد تضمنت القصة معاني، منها: وجوب الضمان على صاحب الغنم، ومنها كيفية الضمان، وإنما المنسوخ منه كيفية الضمان، ولم يثبت أن الضمان نفسه منسوخ. قيل له: قد ثبت نسخ ذلك أيضا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بخبر قد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه، روى أبو هريرة وهزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العجماء جبار " وفي بعض الألفاظ: " جرح العجماء جبار "، ولا خلاف بين الفقهاء في استعمال هذا الخبر في البهيمة المنفلتة إذا أصابت إنسانا أو مالا أنه لا ضمان على صاحبها إذا لم يرسلها هو عليه، فلما كان هذا الخبر مستعملا عند الجميع وكان عمومه ينفي ضمان ما تصيبه ليلا أو نهارا ثبت بذلك نسخ ما ذكر في قصة داود وسليمان عليهما السلام ونسخ ما ذكر في قصة البراء أن فيها إيجاب الضمان ليلا. وأيضا سائر الأسباب الموجبة للضمان لا يختلف فيها الحكم بالنهار والليل في إيجاب الضمان أو نفيه، فلما اتفق الجميع على نفي ضمان من أصابت الماشية نهارا وجب ان يكون ذلك حكمها ليلا، وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الضمان في حديث البراء إذا كان صاحبها هو الذي أرسلها فيه ويكون فائدة الخبر أنه معلوم أن السائق لها بالليل بين الزروع والحوائط لا يخلو من نفش بعض غنمه في زروع الناس وإن لم يعلم بذلك، فأبان النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمها إذا أصابت زرعا، ويكون فائدة الخبر إيجاب الضمان بسوقه وإرساله في الزروع وإن لم يعلم بذلك وبين تساوى حكم العلم والجهل فيه. وجائز أيضا أن تكون قضية داود وسليمان كانت