أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٢٩٣
على هذا الوجه، بأن يكون صاحبها أرسلها ليلا وساقها وهو غير عالم بنفشها في حرث القوم، فأوجبا عليه الضمان، وإذا كان ذلك محتملا لم تثبت فيه دلالة على موضع الخلاف.
وقد تنازع الفريقان من المختلفين في حكم المجتهد في الحادثة القائلون منهم بأن الحق واحد والقائلون بأن الحق في جميع أقاويل المختلفين، فاستدل كل منهم بالآية على قوله، وذلك لأن الذين قالوا بأن الحق في واحد زعموا أنه لما قال تعالى:
(ففهمناها سليمان) فخص سليمان بالفهم دل ذلك على أنه كان المصيب للحق عند الله دون داود، إذ لو كان الحق في قوليهما لما كان لتخصيص سليمان بالفهم دون داود معنى. وقال القائلون بأن كل مجتهد مصيب: لما لم يعنف داود على مقالته ولم يحكم بتخطئته دل على أنهما جميعا كانا مصيبين، وتخصيصه لسليمان بالتفهيم لا يدل على أن داود كان مخطئا، وذلك لأنه جائز أن يكون سليمان أصاب حقيقة المطلوب فلذلك خص بالتفهيم ولم يصب داود عين المطلوب، وإن كان مصيبا لما كلف.
ومن الناس من يقول: إن حكم داود وسليمان جميعا كان من طريق النص لا من جهة الاجتهاد، ولكن داود لم يكن قد أبرم الحكم ولا أمضى القضية بما قال، أو أن يكون قوله ذلك على وجه الفتيا لا على جهة إنفاذ القضاء بما أفتى به، أو كانت قضية معلقة بشريطة لم تفصل بعد، فأوحى الله تعالى إلى سليمان بالحكم الذي حكم به ونسخ به الحكم الذي كان داود أراد أن ينفذه، قالوا: ولا دلالة في الآية على أنهما قالا ذلك من جهة الرأي، قالوا: وقوله: (ففهمناها سليمان) يعني به تفهيمه الحكم الناسخ. وهذا قول من لا يجيز أن يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الاجتهاد والرأي وإنما يقوله من طريق النص. آخر سورة الأنبياء.
(٢٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 288 289 290 291 292 293 294 295 296 297 298 ... » »»